ثم توعد تعالى الكاذبين عليه المفترين ، ممن زعم أنه له ولدا ، بأنهم لا يفلحون في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما في الدنيا فإنهم إذا استدرجهم وأملى لهم متعهم قليلا ثم يضطرهم إلى عذاب غليظ ، كما قال ها هنا : { مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا } أي : مدة قريبة ، { ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } أي : يوم القيامة ، { ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ } أي : الموجع المؤلم { بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } أي : بسبب كفرهم وافترائهم وكذبهم على الله ، فيما ادعوه من الإفك والزور .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنّ الّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدّنْيَا ثُمّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد لهم إنّ الّذِينَ يَفْتَرونَ على الله الكَذبَ فيقولون عليه الباطل ، ويدّعون له ولدا لا يُفْلحُونَ يقول : لا يبقون في الدنيا ، ولكن لهم مَتاعٌ فِي الدّنْيا يُمتّعون به ، وبلاغ يتبلغون به إلى الأجل الذي كتب فناؤهم فيه . ثمّ إلَيْنا مَرْجِعُهُمْ يقول : ثم إذا انقضى أجلهم الذي كتب لهم إلينا مصيرهم ومنقلبهم . ثمّ نُذِيقُهُم العَذَاب الشّدِيد وذلك إصلاؤهم جهنم بِمَا كانُوا يَكْفُرونَ بالله في الدنيا ، فيكذّبون رسله ويجحدون آياته . ورفع قوله : متاعٌ بمضمر قبله إما «ذلك » وإما «هذا » .
استئناف افتتح بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لتنبيه السامعين إلى وعي ما يرد بعد الأمر بالقول بأنه أمر مهم بحيث يطلب تبليغه ، وذلك أن المَقُول قضية عامة يحصل منها وعيد للذين قالوا : اتخذ الله ولداً ، على مقالتهم تلك ، وعلى أمثالها كقولهم : { ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرَّم على أزواجنا } [ الأنعام : 139 ] وقولهم : ما كان لآلهتهم من الحَرث والأنعام لا يصل إلى الله وما كان لله من ذلك يصل إلى آلهتهم ، وقولهم : { لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } [ الإسراء : 90 ] وأمثال ذلك . فذلك كله افتراء على الله ، لأنهم يقولونه على أنه دين ، وماهية الدين أنه وضع إلهي فهو منسوب إليه ، ويحصل من تلك القضية وعيد لأمثال المشركين من كل من يفتري على الله ما لم يقله ، فالمقول لهم ابتداءاً هم المشركون .
والفلاح : حصول ما قصده العامل من عمله بدون انتقاض ولا عاقبة سوء . وتقدم في طالع سورة البقرة ( 5 ) . فنفي الفلاح هنا نفي لحصول مقصودهم من الكذب وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل} يا محمد: {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} يعني: لا يفوزون إذا صاروا إلى النار.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد لهم "إنّ الّذِينَ يَفْتَرونَ على الله الكَذبَ "فيقولون عليه الباطل، ويدّعون له ولدا "لا يُفْلحُونَ" يقول: لا يبقون في الدنيا، ولكن لهم "مَتاعٌ فِي الدّنْيا" يُمتّعون به، وبلاغ يتبلغون به إلى الأجل الذي كتب فناؤهم فيه. "ثمّ إلَيْنا مَرْجِعُهُمْ" يقول: ثم إذا انقضى أجلهم الذي كتب لهم، إلينا مصيرهم ومنقلبهم. "ثمّ نُذِيقُهُم العَذَاب الشّدِيد" وذلك إصلاؤهم جهنم "بِمَا كانُوا يَكْفُرونَ" بالله في الدنيا، فيكذّبون رسله ويجحدون آياته...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ): هو ما ذكرنا أنهم علموا أنه لم يتخذ ولدًا، لكن قالوا ذلك افتراء على اللَّه (لَا يُفْلِحُونَ) في الآخرة؛ لما طمعوا في الدنيا بعبادتهم دون اللَّه الأصنام بقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى). وقوله: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)، لا يفلحون، أي: لا يظفرون بما طمعوا في الآخرة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا توعد لهم بأنهم لا يظفرون ببغية ولا يبقون في نعمة، إذ هذه حال من يصير إلى العذاب وإن نعم في دنياه يسيراً.
اعلم أنه تعالى لما بين بالدليل القاهر أن إثبات الولد لله تعالى قول باطل. ثم بين أنه ليس لهذا القائل دليل على صحة قوله، فقد ظهر أن ذلك المذهب افتراء على الله ونسبه لما لا يليق به إليه، فبين أن من هذا حاله فإنه لا يفلح البتة. ألا ترى أنه تعالى قال في أول سورة المؤمنون: {قد أفلح المؤمنون} وقال في آخر هذه السورة: {إنه لا يفلح الكافرون}
واعلم أن قوله: {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} يدخل فيه هذه الصورة ولكنه لا يختص بهذه الصورة بل كل من قال في ذات الله تعالى وفي صفاته قولا بغير علم وبغير حجة بينة كان داخلا في هذا الوعيد، ومعنى قوله: {لا يفلح} قد ذكرناه في أول سورة البقرة في قوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون} وبالجملة فالفلاح عبارة عن الوصول إلى المقصود والمطلوب، فمعنى أنه لا يفلح هو أنه لا ينجح في سعيه ولا يفوز بمطلوبه بل خاب وخسر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما قدم أن قولهم كذب، وبكتهم عليه مواجهة، أتبعه بما يشير إلى أنهم أهل للإعراض في سياق مهدد على الكذب، فقال معرضاً عن خطابهم مؤكداً لأن اجتراءهم على ذلك دال على التكذيب بالمؤاخذة عليه: {قل} أي للذين ادعوا الولد لله وحرموا ما رزقهم من السائبة ونحوها {إن الذين يفترون} أي يتعمدون {على الله} أي الملك الأعلى {الكذب لا يفلحون}.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ} باتخاذهم الشركاء له، أو بزعمهم اتخاذه ولدا لنفسه، أو بغير ذلك من التحليل والتحريم، وغيرهما من مسائل التشريع، أو بدعوى ولايتهم وإطلاعه إياهم على أسرار خلقه وتصريفه لهم في ملكه، وقد تقدم بعضه في هذه السورة كالآيات 17 و59 و60.
{لاَ يُفْلِحُونَ} أي لا يفوزون بما يؤملون من النجاة من عذاب الآخرة والتمتع بنعيمها بشفاعة الولد أو الشركاء الذين اتخذوهم له تعالى أو فدائهم لهم من عذاب النار.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لا يفلحون أي فلاح. لا يفلحون في شِعب ولا طريق. لا يفلحون في الدنيا ولا في الأخرى. والفلاح الحقيقي هو الذي ينشأ من مسايرة سنن اللّه الصحيحة، المؤدية إلى الخير وارتقاء البشر وصلاح المجتمع، وتنمية الحياة، ودفعها إلى الإمام. وليس هو مجرد الإنتاج المادي مع تحطم القيم الإنسانية، ومع انتكاس البشر إلى مدارج الحيوانية. فذلك فلاح ظاهري موقوت، منحرف عن خط الرقي الذي يصل بالبشرية إلى أقصى ما تطيقه طبيعتها من الاكتمال...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والفلاح: حصول ما قصده العامل من عمله بدون انتقاض ولا عاقبة سوء.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
"لاَ يُفْلِحُونَ" لأنهم لم يأخذوا بأسباب الفلاح من الصدق في الكلمة، والإخلاص في العمل، والاستقامة في الفكر والموقف، بل أخذوا بأسباب الخسران، في ما اختلقوه من أكاذيب، وفي ما مارسوه من أضاليل. وإذا كانوا قد حصلوا على بعض النتائج السريعة من مالٍ أو جاهٍ أو شهوةٍ، فماذا يبقى لهم من ذلك؟...