وأخيرا وجه نوح قلوب قومه إلى نعمة الله عليهم في تيسير الحياة لهم على هذه الأرض وتذليلها لسيرهم ومعاشهم وانتقالهم وطرائق حياتهم : ( والله جعل لكم الأرض بساطا ، لتسلكوا منها سبلا فجاجا ) . .
وهذه الحقيقة القريبة من مشاهدتهم وإدراكهم تواجههم مواجهة كاملة ، ولا يملكون الفرار منها كما كانوا يفرون من صوت نوح وإنذاره . فهذه الأرض بالقياس إليهم مبسوطة ممهدة - حتى جبالها قد جعل لهم عبرها دروبا وفجاجا ، كما جعل في سهولها من باب أولى . وفي سبلها ودروبها يمشون ويركبون وينتقلون ؛ ويبتغون من فضل الله ، ويتعايشون في يسر وتبادل للمنافع والأرزاق .
وهم كانوا يدركون هذه الحقيقة المشاهدة لهم بدون حاجة إلى دراسات علمية عويصة ، يدرسون بها النواميس التي تحكم وجودهم على هذه الأرض وتيسر لهم الحياة فيها . وكلما زاد الإنسان علما أدرك من هذه الحقيقة جوانب جديدة وآفاق بعيدة .
هكذا سلك نوح - أو حاول أن يسلك - إلى آذان قومه وقلوبهم وعقولهم بشتى الأساليب ، ومتنوع الوسائل في دأب طويل ، وفي صبر جميل ، وفي جهد نبيل ، ألف سنة إلا خمسين عاما . ثم عاد إلى ربه الذي أرسله إليهم ، يقدم حسابه ، ويبث شكواه ، في هذا البيان المفصل ، وفي هذه اللهجة المؤثرة . ومن هذا البيان الدقيق نطلع على تلك الصورة النبيلة من الصبر والجهد والمشقة ، وهي حلقة واحدة في سلسلة الرسالة السماوية لهذه البشرية الضالة العصية ! فماذا كان بعد كل هذا البيان ?
{ لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا } أي : خلقها لكم لتستقروا عليها وتسلكوا فيها{[29346]} أين شئتم ، من نواحيها وأرجائها وأقطارها ، وكل هذا مما ينبههم به نوح ، عليه السلام على قدرة الله وعظمته في خلق السموات والأرض ، ونعمه عليهم فيما جعل لهم من المنافع السماوية والأرضية ، فهو الخالق الرزاق ، جعل السماء بناء ، والأرض مهادا ، وأوسع{[29347]} على خلقه من رزقه ، فهو الذي يجب أن يعبد ويوحد ولا يشرك به أحد ؛ لأنه لا نظير له ولا عَديل{[29348]} له ، ولا ند ولا كفء ، ولا صاحبة ولا ولد ، ولا وزير ولا مشير ، بل هو العلي الكبير .
وقوله : لتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجا يقول : لتسلكوا منها طرقا صعابا متفرقة والفجاج : جمع فجّ ، وهو الطريق . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجا قال : طرقا وأعلاما .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجا قال طرقا .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجا يقول : طُرُقا مختلفة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يعني طرقا فجاجا بين الجبال والرمال...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"لتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجا "يقول: لتسلكوا منها طرقا صعابا متفرقة والفجاج: جمع فجّ، وهو الطريق... عن قتادة "لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجا" قال: طرقا وأعلاما...عن ابن عباس، قوله: "لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجا" يقول: طُرُقا مختلفة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قيل: الفجاج الطرق الواسعة، وقيل: السبل في السهل، والفجاج الطرق في الجبال.
وهذا أيضا من عظيم نعم الله تعالى على عباده، لأن الله تعالى قدر أرزاق الخلق في البلاد، فلو لم يجعل لهم في الأرض سبلا لم يجدوا طريقا يسلكونه، فيتوصلون به إلى ما به قوام أبدانهم. فصارت الطرق المتخذة لما يسلك به فيها، فنصل إلى حوائجنا وإلى معايشنا كالدواب التي سخرت لنا، فنتوصل بها إلى حوائجنا. وهذا يبين لك أن ملك أقطار الأرض وتدبيرها يرجع إلى الواحد القهار، لأنه أحوج الخلق إلى الانسياب في البلاد لإقامة أودهم، وجعل لهم سببا، يتوصلون إلى ذلك. فثبت أن مالك الأقطار واحد.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{لتسلكوا} أي منجدين {منها} أي الأرض مجددين لذلك {سبلاً} أي طرقاً واضحة مسلوكة بكثرة {فجاجاً} أي ذوات اتساع لتتوصلوا إلى البلاد الشاسعة براً وبحراً، فيعم الانتفاع بجميع البقاع، فالذي قدر على إحداثكم وأقدركم على التصرف في أصلكم مع ضعفكم قادر على إخراجكم من أجداثكم التي لم تزل طوع أمره ومحل عظمته وقهره.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 19]
وأخيرا وجه نوح قلوب قومه إلى نعمة الله عليهم في تيسير الحياة لهم على هذه الأرض وتذليلها لسيرهم ومعاشهم وانتقالهم وطرائق حياتهم: (والله جعل لكم الأرض بساطا، لتسلكوا منها سبلا فجاجا).. وهذه الحقيقة القريبة من مشاهدتهم وإدراكهم تواجههم مواجهة كاملة، ولا يملكون الفرار منها كما كانوا يفرون من صوت نوح وإنذاره. فهذه الأرض بالقياس إليهم مبسوطة ممهدة -حتى جبالها قد جعل لهم عبرها دروبا وفجاجا، كما جعل في سهولها من باب أولى. وفي سبلها ودروبها يمشون ويركبون وينتقلون؛ ويبتغون من فضل الله، ويتعايشون في يسر وتبادل للمنافع والأرزاق. وهم كانوا يدركون هذه الحقيقة المشاهدة لهم بدون حاجة إلى دراسات علمية عويصة، يدرسون بها النواميس التي تحكم وجودهم على هذه الأرض وتيسر لهم الحياة فيها. وكلما زاد الإنسان علما أدرك من هذه الحقيقة جوانب جديدة وآفاق بعيدة. هكذا سلك نوح- أو حاول أن يسلك -إلى آذان قومه وقلوبهم وعقولهم بشتى الأساليب، ومتنوع الوسائل في دأب طويل، وفي صبر جميل، وفي جهد نبيل، ألف سنة إلا خمسين عاما. ثم عاد إلى ربه الذي أرسله إليهم، يقدم حسابه، ويبث شكواه، في هذا البيان المفصل، وفي هذه اللهجة المؤثرة. ومن هذا البيان الدقيق نطلع على تلك الصورة النبيلة من الصبر والجهد والمشقة، وهي حلقة واحدة في سلسلة الرسالة السماوية لهذه البشرية الضالة العصية! فماذا كان بعد كل هذا البيان؟