وبعد أن يقرر أن لا إيمان قبل تحكيم رسول الله [ ص ] وقبل الرضى والتسليم بقضائه ، يعود ليقول : إن هذا المنهج الذي يدعون إليه ؛ وهذه الشريعة التي يقال لهم : تحاكموا إليها - لا لسواها - وهذا القضاء الذي يتحتم عليهم قبوله والرضاء به . . . إنه منهج ميسر ، وشريعة سمحة ، وقضاء رحيم . . إنه لا يكلفهم شيئا فوق طاقتهم ؛ ولا يكلفهم عنتا يشق عليهم ؛ ولا يكلفهم التضحية بعزيز عليهم . . فالله يعلم ضعف الإنسان ؛ ويرحم هذا الضعف . والله يعلم أنهم لو كلفوا تكاليف شاقة ، ما أداها إلا قليل منهم . . وهو لا يريد لهم العنت ، ولا يريد لهم أن يقعوا في المعصية . . ومن ثم لم يكتب عليهم ما يشق ، وما يدعو الكثيرين منهم للتقصير والمعصية . ولو أنهم استجابوا للتكاليف اليسيرة التي كتبها الله عليهم ؛ واستمعوا للموعظة التي يعظهم الله بها ؛ لنالوا خيرا عظيما في الدنيا والآخرة ؛ ولأعانهم الله بالهدى ، كما يعين كل من يجاهد للهدى بالعزم والقصد والعمل والإرادة ، في حدود الطاقة :
( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ، أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه - إلا قليل منهم - ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به ، لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ؛ وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ؛ ولهديناهم صراطا مستقيمًا ) . .
إن هذا المنهج ميسر لينهض به كل ذي فطرة سوية . إنه لا يحتاج للعزائم الخارقة الفائقة ، التي لا توجد عادة إلا في القلة من البشر . وهذا الدين لم يجيء لهذه القلة القليلة . إنه جاء للناس جميعا . والناس معادن ، وألوان ، وطبقات . من ناحية القدرة على النهوض بالتكاليف . وهذا الدين ييسر لهم جميعا أن يؤدوا الطاعات المطلوبة فيه ، وأن يكفوا عن المعاصي التي نهى عنها .
وقتل النفس ، والخروج من الديار . . مثلان للتكاليف الشاقة ، التي لو كتبت عليهم ما فعلها إلا قليل منهم . وهي لم تكتب لأنه ليس المراد من التكاليف أن يعجز عنها عامة الناس ؛ وأن ينكل عنها عامة الناس . بل المراد أن يؤديها الجميع ، وأن يقدر عليها الجميع ، وأن يشمل موكب الإيمان كل النفوس السوية العادية ؛ وأن ينتظم المجتمع المسلم طبقات النفوس ، وطبقات الهمم ، وطبقات الاستعدادات ؛ وأن ينميها جميعا ويرقيها ، في أثناء سير الموكب الحافل الشامل العريض !
قال ابن جريج : حدثنا المثنى إسحاق أبو الأزهر ، عن إسماعيل ، عن أبى إسحاق السبيعي قال : لما نزلت : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ) . . . الآية : قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا . . فبلغ ذلك النبي [ ص ] فقال : " إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبالالرواسي " .
وروى ابن أبي حاتم - بإسناده - عن مصعب بن ثابت . عن عمه عامر بن عبدالله بن الزبير . قال : لما نزلت ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ) قال رسول الله [ ص ] : " لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم " .
وفي رواية له - بإسناده - عن شريح بن عبيد : قال : لما تلا رسول الله [ ص ] هذه الآية : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم . . . ) الآية ، أشار رسول الله [ ص ] بيده إلى عبدالله ابن رواحة ، فقال : " لو أن الله كتب هذا ، لكان هذا من أولئك القليل " :
وكان رسول الله [ ص ] يعرف رجاله معرفة وثيقة عميقة دقيقة ؛ ويعرف من خصائص كل منهم ما لا يعرفه كل منهم عن نفسه ! وفي السيرة من هذا الكثير من الشواهد على خبرة الرسول [ ص ] بكل واحد من رجاله ؛ وخبرته كذلك بالرجال والقبائل التي كانت تحاربه . . خبرة القائد البصير بكل ما حوله ومن حوله . . في دقة عجيبة . . لم تدرس بعد الدراسة الواجبة .
وليس هذا موضوعنا . ولكن موضوعنا أن رسول الله [ ص ] كان يعرف أن في أمته من ينهض بالتكاليف الشاقة لو كتبت عليهم . ولكنه كان يعرف كذلك أن الدين لم يجيء لهذه القلة الممتازة في البشرية كلها . وكان الله - سبحانه - يعلم طبيعة هذا " الإنسان " الذي خلقه ؛ وحدود طاقته ؛ فلم يكتب على الناس في الدين الذي جاء للبشر أجمعين ، إلا ما هو ميسر للجميع ؛ حين تصح العزيمة ، وتعتدل الفطرة ، وينوي العبد الطاعة ، ولا يستهتر ولا يستهين .
وتقرير هذه الحقيقة ذو أهمية خاصة ؛ في مواجهة الدعوات الهدامة ؛ التي تدعو الإنسان إلى الانحلال والحيوانية ، والتلبط في الوحل كالدود ! بحجة أن هذا هو " واقع " الإنسان ، وطبيعته وفطرته وحدود طاقته ! وأن الدين دعوة " مثالية " لم تجيء لتحقق في واقع الأرض ؛ وإذا نهض بتكاليفها فرد ، فإن مائة لا يطيقون !
هذه دعوى كاذبة أولا ؛ وخادعة ثانيا ؛ وجاهلة ثالثا . . لأنها لا تفهم " الإنسان " ولا تعلم منه ما يعلمه خالقه ، الذي فرض عليه تكاليف الدين ؛ وهو يعلم - سبحانه - أنها داخلة في مقدور الإنسان العادي . لأن الدين لم يجيء للقلائل الممتازين !
وإن هي إلا العزيمة - عزيمة الفرد العادي - وإخلاص النية . والبدء في الطريق . وعندئذ يكون ما يعد الله به العاملين :
( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ) .
فمجرد البدء ، يتبعه العون من الله . ويتبعه التثبيت على المضي في الطريق .
وتتبعه الهداية إلى الطريق المستقيم . . وصدق الله العظيم . . فما يخدع الله - سبحانه وتعالى - عباده ؛ ولا يعدهم وعدا لا يفي لهم به ؛ ولا يحدثهم إلا حديث الصدق . . ( ومن أصدق من الله حديثًا ) ؟
في الوقت ذاته ليس اليسر - في هذا المنهج - هو الترخص . ليس هو تجميع الرخص كلها في هذا الدين وجعلها منهج الحياة . فهذا الدين عزائم ورخص . والعزائم هي الأصل والرخص للملابسات الطارئة . . وبعض المخلصين حسني النية ، الذين يريدون دعوة الناس إلى هذا الدين ، يعمدون إلى " الرخص " فيجمعونها ويقدمونها للناس ، على أنها هي هذا الدين . ويقولون لهم : انظروا كم هو ميسر هذا الدين ! وبعض الذين يتملقون شهوات السلطان أو شهوات الجماهير ، يبحثون عن " منافذ " لهذه الشهوات من خلال الأحكام والنصوص ؛ ويجعلون هذه المنافذ هي الدين !
وهذا الدين ليس هذا وليس ذاك . إنما هو بجملته . برخصه وعزائمة . ميسر للناس يقدر عليه الفرد العادي ، حين يعزم . ويبلغ فيه تمام كماله الذاتي - في حدود بشريته - كما يبلغ تمام كماله الذاتي في الحديقة الواحدة : العنب والخوخ والكمثرى والتوت والتين والقثاء . . ولا تكون كلها ذات طعم واحد . . ولا يقال عن أحدها : إنه غير ناضج - حين يبلغ نضجه الذاتي - إذا كان طعمه أقل مرتبة من النوع الآخر !
في حديقة هذا الدين ينبت البقل والقثاء ؛ وينبت الزيتون والرمان ، وينبت التفاح والبرقوق ، وينبت العنب والتين . . . وينضج كله ؛ مختلفة طعومه ورتبه . . ولكنه كله ينضج . ويبلغ كماله المقدر له . . إنها زرعة الله . . في حقل الله . . برعاية الله . . وتيسير الله . .
{ وَإِذاً لآتيناهم مّن لدنا أَجْراً عَظِيماً * لهديناهم صِرَاطاً مّسْتَقِيماً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : { ولَوْ أنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْرا لَهُمْ } لإيتائنا إياهم على فعلهم ما وعظوا به من طاعتنا والانتهاء إلى أمرنا { أَجْرا } يعني : جزاء وثوابا عظيما ، وأشدّ تثبيتا لعزائمهم وآرائهم ، وأقوى لهم على أعمالهم لهدايتنا إياهم صراطا مستقيما ، يعني : طريقا لا اعوجاج فيه ، وهو دين الله القويم الذي اختاره لعباده وشرعه لهم ، وذلك الإسلام .
ومعنى قوله : { وَلَهَدَيْناهُمْ } ولوفقناهم للصراط المستقيم .
ثم ذكر تعالى ما كان يمن به عليهم من تفضله بالأجر ووصفه إياه بالعظم مقتض ما لا يحصله بشر من النعيم المقيم ، و «الصراط المستقيم » : الإيمان المؤدي إلى الجنة ، وجاء ترتيب هذه الآية كذا ، ومعلوم أن الهداية قبل إعطاء الأجر ، لأن المقصد إنما هو تعديد ما كان الله ينعم به عليهم دون ترتيب ، فالمعنى : ولهديناهم قبل حتى يكونوا ممن يؤتى الأجر .
قوله : { ولهديناهم صراطاً مستقيماً } أي لفتحنا لهم طرق العلم والهداية ، لأنّ تصدّيهم لامتثال ما أمروا به هو مبدأ تخلية النفوس عن التعلق بأوهامها وعوائدها الحاجبة لها عن دَرْك الحقائق ، فإذا ابتدأوا يرفضون هذه المواقع فقد استعدّوا لتلقّي الحكمة والكمالات النفسانية ففاضت عليهم المعارف تترى بدلالة بعضها على بعض وبتيسير الله صعبها بأنوار الهداية والتوفيق ، ولا شكّ أنّ الطاعة مفتاح المعارف بعد تعاطي أسبابها .