وقوله : { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين } خبر لمبتدأ محذوف . أى : أصحاب اليمين جماعة كبيرة منهم من الأمم الماضية ، وجماعة كبيرة أخرى من هذه الأمة الإسلامية .
وبذلك نرى أن الله - تعالى - قد ذرك لنا ألوانا من النعم التى أنعم بها على أصحاب اليمين . كما ذكر قبل ذلك ألوانا أخرى مما أنعم به على السابقين .
قال الآلوسى : ولم يقل - سبحانه - فى حق أصحاب اليمين : { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } كما قال - سبحانه - ذلك فى حق السابقين ، رمزا إلى أن الفضل فى حقهم متمحض ، كأن عملهم لقصوره عن عمل السابقين ، لم يعتبر اعتباره .
ثم الظاهر أن ما ذكر من أصحاب اليمين ، هو حالهم الذى ينتهون إليه فلا ينافى أن يكون منهم من يعذب لمعاص فعلها ، ومات غير تائب عنها ، ثم يدخل الجنة .
وقوله : { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ . وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ } أي : جماعة من الأولين وجماعة من الآخرين .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا محمد بن بكار ، حدثنا سعيد بن بَشير ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن عمران بن حُصَين ، عن عبد الله بن مسعود - قال : وكان بعضهم يأخذ عن بعض - قال : أكرينا ذات ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم غدونا عليه ، فقال : " عُرضت عليَّ الأنبياء وأتباعها بأممها ، فيمر علي النبي ، والنبي في العصابة ، والنبي في الثلاثة ، والنبي ليس معه أحد - وتلا قتادة هذه الآية : { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ } [ هود : 78 ] - قال : حتى مرَّ عليَّ موسى بن عمران في كبكبة من بني إسرائيل " . قال : " قلتُ : ربي من هذا ؟ قال : هذا أخوك موسى بن عمران ومن معه{[28124]} من بني إسرائيل " . قال : " قلت : رب فأين أمتي ؟ قال : انظر عن يمينك في الظراب{[28125]} . قال : " فإذا وجوه الرجال " . قال : " قال : أرضيت ؟ " قال : قلت : " قد رضيت ، رب " . قال : انظر إلى الأفق عن يسارك فإذا وجوه الرجال . قال : أرضيت ؟ قلت : " رضيت ، رب " . قال : فإن مع هؤلاء سبعين ألفا ، يدخلون الجنة بغير حساب " . قال : وأنشأ عُكَّاشة بن مُحْصَن من بني أسد - قال سعيد : وكان بَدْريًّا - قال : يا نبي الله ، ادع الله أن يجعلني منهم . قال : فقال : " اللهم اجعله منهم " . قال : أنشأ{[28126]} رجل آخر ، قال : يا نبي الله ، ادع الله أن يجعلني منهم . فقال : " سبقك بها عكاشة " قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإن استطعتم - فداكم أبي وأمي - أن تكونوا من أصحاب السبعين فافعلوا وإلا فكونوا{[28127]} من أصحاب الظراب {[28128]} ، وإلا فكونوا من أصحاب الأفق ، فإني قد رأيت ناسًا كثيرًا قد تأشَّبوا حوله " {[28129]} . ثم قال : " إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة " . فكبرنا ، ثم قال : " إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة " . قال : فكبرنا ، قال : " إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة " . قال : فكبرنا . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ . وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ } قال : فقلنا بيننا : من هؤلاء السبعون ألفا ؟ فقلنا : هم الذين ولدوا في الإسلام ، ولم يشركوا . قال : فبلغه ذلك فقال : " بل هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون " .
وكذا رواه ابن جرير من طريقين آخرين عن قتادة ، به نحوه{[28130]} . وهذا الحديث له طرق كثيرة من غير هذا الوجه في الصحاح وغيرها .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مِهْرَان ، حدثنا سفيان ، عن أبان بن أبي عياش ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس : { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ . وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هُمَا جميعًا من أمتي " {[28131]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُلّةٌ مّنَ الأوّلِينَ * وَثُلّةٌ مّنَ الاَخِرِينَ * وَأَصْحَابُ الشّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ * لاّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ * إِنّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُواْ يُصِرّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ } .
يقول تعالى ذكره : الذين لهم هذه الكرامة التي وصف صفتها في هذه الاَيات ثُلّتان ، وهي جماعتان وأمتان وفرقتان : ثُلّةٌ مِنَ الأوّلِينَ ، يعني جماعة من الذين مضوا قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وَثُلّةٌ مِنَ الاَخِرِينَ ، يقول : وجماعة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال به أهل التأويل . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، قال : قال الحسن ثُلّةٌ مِنَ الأوّلِينَ من الأمم وَثُلّةٌ مِنَ الاَخِرِينَ : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ثُلّةٌ مِنَ الأوّلِينَ قال : أمة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : حدثنا الحسن ، عن حديث عمران بن حصين ، عن عبد الله بن مسعود قال : «تحدثنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى أكرينا في الحديث ، ثم رجعنا إلى أهلينا ، فلما أصبحنا غدونا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عُرِضَتْ عَليّ الأنْبِياءُ اللّيْلَةَ بأتْباعِها مِنْ أُمَمِها ، فَكانَ النّبِيّ يَجِيءُ مَعَهُ الثّلّةُ مِنْ أُمّتِهِ ، والنّبِيّ مَعَهُ العِصَابَةُ مِنْ أُمّتِهِ والنّبِيّ مَعَهُ النّفَرُ مِن أُمّتِهِ ، والنّبِيّ مَعَهُ الرّجُلُ مِنْ أُمّتِهِ ، والنّبِيّ ما مَعَهُ مِنْ أُمّتِهِ أحَد مِنْ قَوْمِهِ ، حتى أتى عَليّ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ في كَبْكَبَةٍ مِنْ بني إسْرَائِيلَ فَلَمّا رأيْتُهُمْ أعْجَبُونِي ، فَقُلْتُ أيْ رَبّ مَنْ هَؤُلاءِ ؟ قال : هَذَا أخُوكَ مُوسَى بنُ عِمْرَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ بَني إسْرائِيلَ فقُلْتُ رَبّ ، فأيْنَ أُمّتِي ؟ فَقِيلَ : انْظُرْ عَنْ يَمِينِكَ ، فإذَا ظِرَابُ مَكّةَ قَدْ سُدّتْ بِوُجُوهِ الرّجالِ فَقُلْتُ : «مَنْ هَؤُلاءِ ؟ قِيلَ : هَؤُلاء أُمّتُكَ ، فَقِيلَ : أرَضِيتَ ؟ فَقُلْتُ : «رَبّ رَضِيتُ رَبّ رَضِيتُ قِيلَ : انْظُر عَنْ يَسارِكَ ، فَإذَا الأُفُقُ قَدْ سُدّ بِوُجُوهِ الرّجَالِ ، فَقُلْتُ : «رَبّ مَنْ هَؤُلاءِ ؟ قِيلَ : هَؤُلاءِ أُمّتُكَ ، فَقِيلَ : أرَضِيتَ ؟ فَقُلتُ رَضِيتُ ، رَبّ رَضِيتُ فَقِيلَ : إنّ مَعَ هُؤُلاءِ سَبْعِينَ ألْفا مِنْ أُمّتِكَ يَدْخُلُونَ الجَنّةَ لا حِسابَ عَلَيْهِمْ قال : فأنشأ عُكّاشة بن محصن ، رجل من بني أسد بن خُزيمة ، فقال : يا نبيّ الله ادعُ ربك أن يجعلني منهم ، قال : «اللّهُمّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ ، ثم أنشأ رجل آخر فقال : يا نبيّ الله ادع ربك أن يجعلني منهم ، قال : سَبَقَك بها عُكّاشَةُ ، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : فَدًى لَكُمْ أبي وأمّي إنْ اسْتطَعْتُمْ أنْ تَكُونوا مِنَ السّبْعِينَ فَكُونُوا مِنْ أهْلِ الأُفُقِ ، فإنّي رأيْتُ ثمّ أُناسا يَتَهَرّشُونَ كَثِيرا ، أو قال يَتَهَوّشُونَ قال : فتراجع المؤمنون ، أو قال فتراجعنا على هؤلاء السبعين ، فصار من أمرهم أن قالوا : نراهم ناسا وُلدوا في الإسلام ، فلم يزالوا يعملون به حتى ماتوا عليه ، فنمي حديثهم ذاك إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لَيْسَ كَذاكَ ، وَلَكِنّهُمُ الّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ ، وَلا يكْتَوُون ، وَلا يَتَطَيّرُونَ ، وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ . ذُكر أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذٍ : «إنّي لأَرْجُو أنْ يَكُونَ مَنْ تَبِعَنِي مِنْ أُمّتِي رُبْعَ أهْلِ الجَنّةِ ، فكّبرنا ، ثم قال : إنّي لاَءَرْجُو أنْ تَكُونُوا الشّطْرَ ، فكبرنا ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية : ثُلّةٌ مِنَ الأوّلِينَ وَثُلّةٌ مِنَ الاَخِرِينَ .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا الحسن بن بشر البجَليّ ، عن الحكم بن عبد الملك ، عن قتادة ، عن الحسن عن عمران بن حصين ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : «تحدّثنا لَيْلَةً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أكرينا أو أكثرنا ، ثم ذكر نحوه ، إلاّ أنه قال : فإذَا الظّرَابُ ظِرابُ مَكّةَ مَسْدُودَةٌ بِوُجُوهِ الرّجالِ وقال أيضا : فإني رأيْتُ عِنْدَهُ أُناسا يَتَهاوَشُونَ كَثِيرا قال : فقلنا : من هؤلاء السبعون ألفا فاتفق رأينا على أنهم قوم وُلدوا في الإسلام ويموتون عليه قال : فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «لا ، وَلَكِنّهُمْ قَوْمٌ لا يَكْتَوُونَ » وقال أيضا : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأَرْجُو أنْ تكُونُوا رُبْعَ أهْلِ الجَنّةِ ، فكبر أصحابه ثم قال : «إنّي لأَرْجُوا أنْ تكُونُوا ثُلُثَ أهْلِ الجَنّةِ » ، فكبر أصحابه ثم قال : «إنّي لأَرْجُو أنْ تَكُونُوّ شَطْرَ أهْلِ الجَنّةِ » ، ثم قرأ ثُلّةٌ مِن الأوّلِين وَثُلّةٌ مِنَ الاَخِرِينَ .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عوف ، عن عبد الله بن الحارث ، قال : كلهم في الجنة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، أنه بلغه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «أتَرْضُوْنَ أنْ تَكُونُوا رُبُعَ أهْلِ الجَنّة ؟ قالوا : نعم ، قال : «أتَرْضُوْنَ أنْ تكُونُوا ثُلُثَ أهْلِ الجَنّةِ ؟ قالوا : نعم ، «قال وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّي لأَرْجُو أنْ تَكُونُوا شَطْرَ أهْل الجَنّةِ ، ثم تلا هذه الاَية ثُلّةٌ مِنَ الأوّلِينَ وَثُلّةٌ مِنَ الاَخِرِينَ » .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن بُدَيل بن كعب أنه قال : أهل الجنة عشرون ومئة صفّ ، ثمانون صفا منها من هذه الأمة .
وفي رفع ثُلّةٌ وجهان : أحدهما الاستئناف ، والاَخر بقوله : لأصحاب اليمين ثلتان ، ثلة من الأوّلين وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم خبر من وجه عنه صحيح أنه قال : «الثّلّتانِ جَمِيعا مِنْ أُمّتِي » . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبان بن أبي عياش ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ثُلّةٌ مِنَ الأوّلِينَ وَثُلّةٌ مِنَ الاَخِرِينَ قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «هُمَا جَمِيعا مِنْ أُمّتِي » .
واختلف الناس في قوله : { ثلة من الأولين وثلة من الآخرين } فقال الحسن بن أبي الحسن وغيره ، الأولون : سالف الأمم ، منهم جماعة عظيمة أصحاب يمين ، والآخرون : هم هذه الأمة ، منهم جماعة عظيمة أهل يمين .
قال القاضي أبو محمد : بل جميعهم إلا من كان من السابقين . وقال قوم من المتأولين : هاتان الفرقتان في أمة محمد ، وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «الثلثان من أمتي »{[10910]} فعلى هذا التابعون بإحسان ومن جرى مجراهم ثلة أولى ، وسائر الأمة ثلة أخرى في آخر الزمان .
أي أصحاب اليمين : { ثلة من الأولين وثلة من الآخرين } ، والكلام فيه كالكلام في قوله : { ثلة من الأولين وقليل من الآخرين } [ الواقعة : 13 ، 14 ] فاذكره . وفي « تفسير القرطبي » عن أبي بكر الصديق : أن كلتا الثلتين من الأمة المحمدية ثلة من صدرها وثلة من بقيتها ولم ينبه على سند هذا النقل .
وإنما أخر هذا عن ذكر ما لهم من النعيم للإِشعار بأن عزة هذا الصنف وقلته دون عزة صنف السابقين ، فالسابقون أعز ، وهذه الدلالة من مستتبعات التراكيب المستفادة من ترتيب نظم الكلام .