القول في تأويل قوله تعالى : { وَتُحِبّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً * كَلاّ إِذَا دُكّتِ الأرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَآءَ رَبّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيَءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكّرُ الإِنسَانُ وَأَنّىَ لَهُ الذّكْرَىَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَتُحِبّونَ المَالَ حُبّا جَمّا وتحبون جمع المال أيها الناس واقتناءه حبا كثيرا شديدا من قولهم : قد جمّ الماء في الحوض : إذا اجتمع ، ومنه قول زُهير بن أبي سلمى :
فَلَمّا وَرَدْنَ المَاءَ زُرْقا جِمامُهُ *** وَضَعْنَ عِصِيّ الْحاضِرِ المُتَخَيّمِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : وتُحِبّونَ المَالَ حُبّا جَمّا يقول : شديدا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وتُحِبّونَ المَالَ حُبّا جَمّا فيحبون كثرة المال .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : حُبّا جَمّا قال : الجمّ : الكثير .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وتُحِبّونَ المَالَ حُبا جَمّا : أي حبا شديدا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : حُبّا جَمّا : يحبون كثرة المال .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وتُحِبّونَ المَالَ حُبّا جَمّا قال : الجمّ : الشديد .
والجم الكثير الشديد ومنه قول الشاعر
إن تغفر اللهم تغفر جما *** وأي عبد لك لا ألما{[11807]}
والجم : الكثير ، يقال : جَمَّ الماءُ في الحوض ، إذا كثر ، وبِئر جموم بفتح الجيم : كثيرةُ الماء ، أي حباً كثيراً ، ووصْف الحُبّ بالكثرة مراد به الشدة لأن الحب معنى من المعاني النفسية لا يوصف بالكثرة التي هي وفرة عدد أفراد الجنس .
فالجمّ مستعار لمعنى القوي الشديد ، أي حبّاً مفرطاً ، وذلك محل ذم حب المال ، لأن إفراد حبه يوقع في الحِرص على اكتسابه بالوسائل غير الحَق كالغصب والاختلاس والسرقة وأكل الأمانات .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وتحبون جمع المال أيها الناس واقتناءه حبا كثيرا شديدا من قولهم : قد جمّ الماء في الحوض : إذا اجتمع .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال أبو بكر : أي تحبونه حبا وافيا وافرا ، ليس فيه قصور ، فيكون فيه إخبار عن غاية حبهم الدنيا وشدة حرصهم عليها . وجائز أن يكون على التقدير والتأخير ، وهو أنهم يحبون المال الجم حبا أي المال الكثير . ...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما : يعني كثيراً ، قاله ابن عباس ، والجمّ الكثير ...
الثاني : فاحشاً تجمعون حلاله إلى حرامه ، قاله الحسن : ويحتمل ثالثاً : أنه يحب المال حب إجمام له واستيفاء فلا ينتفع به في دين ولا دنيا وهو أسوأ أحوال ذي المال . ...
فاعلم أن الجم هو الكثرة يقال : جم الشيء يجم جموما يقال ذلك في المال وغيره فهو شيء جم وجام ، وقال أبو عمرو جم يجم أي يكثر ... فبين أن حرصهم على الدنيا فقط وأنهم عادلون عن أمر الآخرة . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ وتحبون } أي على سبيل الاستمرار { المال } أي هذا النوع من أي شيء كان ، وأكده بالمصدر والوصف فقال : { حباً جماً } أي كثيراً مع حرص وشره ، فصار قصارى أمرهم النظر الدنيوي ، ولم يصرفوا أنفسهم عن حبه إلى ما دعا إليه العقل الذي يعقل النفس عن الهوى ، والحجر الذي يحجرها عن الحظوظ ، والنهية التي تنهاها عن الشهوات إلى الإقبال على الله . ...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وخلاصة ذلك : أنتم تؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، إذ لو كنتم ممن غلب عليه حب الآخرة ، لانصرفتم عما يترك الموتى ميراثا لأيتامهم ، ولكنكم تشاركونهم فيه ، وتأخذون شيئا لا كسب لكم فيه ، ولا مدخل لكم في تحصيله وجمعه ، ولو كنتم ممن استحبوا الآخرة لما ضريت نفوسكم على المال تأخذونه من حيث وجدتموه ، من حلال أو من حرام . فهذه أدلة ترشد إلى أنكم لستم على ما ادعيتم من صلاح وإصلاح ....
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وتحبون المال حبا كثيرا طاغيا ، لا يستبقي في نفوسكم أريحية ولا مكرمة مع المحتاجين إلى الإكرام والطعام . وقد كان الإسلام يواجه في مكة - كما ذكرنا من قبل - حالة من التكالب على جمع المال بكافة الطرق ، تورث القلوب كزازة وقساوة . وكان ضعف اليتامى مغريا بانتهاب أموالهم وبخاصة الإناث منهم في صور شتى ؛ وبخاصة ما يتعلق في الميراث [ كما سبق بيانه في مواضع متعددة في الظلال ] كما كان حب المال وجمعه بالربا وغيره ظاهرة بارزة في المجتمع المكي قبل الإسلام . وهي سمة الجاهليات في كل زمان ومكان ! حتى الآن ! وفي هذه الآيات فوق الكشف عن واقع نفوسهم ، تنديد بهذا الواقع ، وردع عنه ، يتمثل في تكرار كلمة " كلا " كما يتمثل في بناء التعبير وإيقاعه ، وهو يرسم بجرسه شدة التكالب وعنفه : " وتأكلون التراث أكلا لما . وتحبون المال حبا جما ! " . . ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي حباً كثيراً ، ووصْف الحُبّ بالكثرة مراد به الشدة لأن الحب معنى من المعاني النفسية لا يوصف بالكثرة التي هي وفرة عدد أفراد الجنس . فالجمّ مستعار لمعنى القوي الشديد ، أي حبّاً مفرطاً ، وذلك محل ذم حب المال ، لأن إفراد حبه يوقع في الحِرص على اكتسابه بالوسائل غير الحَق كالغصب والاختلاس والسرقة وأكل الأمانات . ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
أي كثيراً عظيماً ، لأنكم تربيتم على الاستغراق في حب المال كجزءٍ من حب الدنيا التي استغرقتم فيها ، وأخلدتم إلى الأرض في كل إيحاءاتها المادية ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ يأتي الذّم الرّابع : ( وتحبّون المال حبّاً جمّاً ) . فأنتم . . عبدة دنيا ، طالبو ثروة ، عشاق مال ومتاع . . ومَن يكون بهذه الحال فمن الطبيعي أن لا يعتني في جمعه للمال ، أكان من حلال أم من حرام ، ومن الطبيعي أيضاً أن يتجاوز على الحقوق الشرعية المترتبة عليه ، بأن لا ينفقها أو ينقص منها . . ومن الطبيعي كذلك إنّ القلب الذي امتلأ بحبّ المال والدنيا سوف لا يبقى فيه محل لذكر اللّه عزّ وجلّ . ولذا نجد القرآن الكريم بعد ذكره لمسألة امتحان الإنسان ، يتعرض لأربعة اختبارات يفشل فيها المجرمون . إكرام اليتيم . إطعام المسكين . أسهم الإرث . وجمعه من طريق مشروع وغير مشروع . وجمع المال بدون قيد أو شرط . والملاحظ أنّ الاختبارات المذكورة إنّما تدور حول محور الأموال ، للإشارة ما للمال من مطبات مهلكة ، ولو تجاوزها الإنسان لسهلت عليه بقية العقبات في طريقه نحو التكامل والرقي والسمو . وثمّة مَن يكون متذبذباً في الأمانة ( بين أن يؤدي أو يخون ) ، .....والخلاصة : من تجاوز اختبار المال بنجاح ، فهو أهلٌ للاعتماد ، ومن أهل التقوى والورع ، وهو خير أخ وصديق ، وغالباً ما تراه صالحاً في كافة مجالات حياته والمجتمع . ولذلك ، نرى الاختبارات هنا دارت حول محور المال . ...