ثم بين - سبحانه - ما لهم بعد ذلك من أجر عظيم فقال : { وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } .
أى : وإذا لو ثبتوا على طاعتنا لأعطيناهم من عندنا ثوابا عظيما لا يعرف مقداره إلا الله - تعالى - ولتقلبناهم وأرشدناهم إلى سلوك الطريق المستقيم وهو طريق الإِسلام الذى باتباعه يسعدون فى دنياهم وآخرتهم .
قال صاحب الكشاف : وقوله " وإذا " جواب لسؤال مقدر ، كأنه قيل : وماذا يكون لهم أيضا بعد التثبيت ؟ فقيل : وإذا لو ثبتوا { لآتَيْنَاهُمْ } لأن إذا جواب وجزاء .
وقد فخم - سبحانه - هذا العطاء بعدة أمور منها : أنه ذكر - سبحانه - نفسه بصيغة العظمة { لآتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّآ } { وَلَهَدَيْنَاهُمْ } والمعطى الكريم إذا ذكر نفسه باللفظ الدال على العظمة عند الوعد بالعطية ، دل ذلك على عظمة تلك العطية .
ومنها : أن قوله { مِّن لَّدُنَّآ } يدل على التخصيص أى : لآتيناهم من عندنا وحدنا لا من عند غيرنا . وهذا التخصيص يدل على المبالغة والتشريف ، لأنه عطاء من واهب النعم وممن له الخلق والأمر كما فى قوله - تعالى - { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } ومنها : أنه - سبحانه - وصف هذا الأجر المعطى بالعظمة بعد أن جاء به منكرا ، وهذا الأسلوب يدل على أن هذا العطاء غير محدود بحدود ، وأنه قد بلغ أقصى ما يتصوره العقل من جلال فى كمه وفى كيفه . { ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم } هذا ، وبذلك ترى أن الآيات الكريمة - من قوله - تعالى - { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } . إلى هنا - قد بينت ما عليه المنافقون من فسوق وعصيان ، وحكت معاذيرهم الكاذبة ، وصورت نفورهم من حكم الله تصويرا بليغا ، وكشفت عن أوالهم ورذائلهم بأسلوب يدعو العقلاء إلى احتقارهم وهجرهم ، وأرشدت إلى أنجع الوسائل لعلاجهم ؛ وفتحت لهم باب التوبة حتى يثوبوا إلى رشدهم ، ويطهروا نفوسهم من السوء والفحشاء ، ووضحت جانبا من مظاهر اليسر والتخفيف التى تفضل بها - سبحانه - على الأمة الإِسلامية ، ووعدت الذين يستجيبون لله ولرسوله بالثواب الجزيل ، وتوعدت الذين يتركون حكم الله إلى حكم غيره بالعذاب الأليم ، ووصفتهم بعدم الإِيمان .
وقد أفاض بعض المفسرين عند تفسيره لهذه الآيات فى بيان سوء حال من يتحاكم إلى غير شريعة الله ، وساقوا أمثلة متعددة لشدة تمسك السلف الصلاح بهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن ذلك قول الفخر الرازى : قال القاضى : يجب أن يكون التحاكم إلى هذا الطاغوت كالكفر . وعدم الرضا بحكم محمد صلى الله عليه وسلم كفر ويدل عليه وجوه :
الأول : أنه - تعالى - قال { يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } . فجعل التحاكم إلى الطاغوت يكون إيمانا به .
ولا شك أن الإِيمان بالطاغوت كفر بالله . كما ان الكفر بالطاغوت إيمان بالله .
الثانى : قوله تعالى - : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } . . إلى قوله { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } . وهذا نصف فى تكفير من لم يرض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم .
الثالث : قوله - تعالى - { فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وهذا يدل على أن مخالفته معصية عظيمة .
وفى هذه الآيات دلائل على أن من رد شيئا من أوامر الله أو أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الإِسلام . سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد . وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة إليه من الحكم بارتداد ما نعى الزكاة وقتلهم وسبى ذراريهم .
وقال الشيخ جمال الدين القاسمى : قال ولى الله التبريزى . روى الإِمام مسلم - بسنده - عن بلال بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم : فقال بلال : والله لمنعنهن . فقال عبد الله : أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . وتقول أنت : لنمنعهن "
وفى رواية سالم عن أبيه قال : فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا ما سمعته سبه مثله قط . وقال : أخبرك عن رسول الله ، وتقول : والله لمنعهن .
وفى رواية للإِمام أحمد أنه ما كلمه حتى مات .
فأنت ترى أن ابن عمر - رضى الله عنه - لشدة تمسكه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غضب لله ورسوله . وهجر فلذة كبده ، لتلك الزلة .
وقال الإِمام الشافعى : أخبرنا أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابى قال : حدثنى ابن أبى ذئب عن المقبرى عن أبى شريح الكعبى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح : " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين . إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود " قال أبو حنيفة : فقلت لابن أبى ذئب . أتأخذ بهذا يا أبا الحارث ؟ فضرب صدرى وصاح على صياحا كثيرا ونال منى وقال : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أتأخذ به ؟ نعم . آخذ به . وذلك الفرض على وعلى من سمعه . إن الله - تعالى - قد اختار محمدا صلى الله عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه . واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه . فعلى الخلق أن يتبعوه لا مخرج لمسلم . وما سكت حتى تمنيت أن يسكت .
وقال الإِمام ابن القيم : والذى ندين الله به ، ولا يسعنا غيره أن الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه ، أن الفرض علينا وعلى الأمة بحديث وترك لك ما خالفه .
ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان . لا رواية ولا غيره . إذ من الممكن أن يسنى الراوى الحديث ولا يحضره وقت الفتيا . أولا يتفطن لدلالته على تلك المسألة . أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا . أو يقوم فى ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضا فى نفس الأمر . أو يقلد غيره فى فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه ، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه . .
فالله - تعالى - علق سعادة الدارين بمتابعته صلى الله عليه وسلم وجعل شقاوة الدارين فى مخالفته .
وهكذا نرى أن السلف الصالح كانوا يتمسكون بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد التمسك ، ويهجرون كل من خالفها ، ولم يقيد نفسه بها .
قوله : { ولهديناهم صراطاً مستقيماً } أي لفتحنا لهم طرق العلم والهداية ، لأنّ تصدّيهم لامتثال ما أمروا به هو مبدأ تخلية النفوس عن التعلق بأوهامها وعوائدها الحاجبة لها عن دَرْك الحقائق ، فإذا ابتدأوا يرفضون هذه المواقع فقد استعدّوا لتلقّي الحكمة والكمالات النفسانية ففاضت عليهم المعارف تترى بدلالة بعضها على بعض وبتيسير الله صعبها بأنوار الهداية والتوفيق ، ولا شكّ أنّ الطاعة مفتاح المعارف بعد تعاطي أسبابها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 67]
{ولَوْ أنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْرا لَهُمْ} لإيتائنا إياهم على فعلهم ما وعظوا به من طاعتنا والانتهاء إلى أمرنا {أَجْرا} يعني: جزاء وثوابا عظيما، وأشدّ تثبيتا لعزائمهم وآرائهم، وأقوى لهم على أعمالهم لهدايتنا إياهم صراطا مستقيما، يعني: طريقا لا اعوجاج فيه، وهو دين الله القويم الذي اختاره لعباده وشرعه لهم، وذلك الإسلام.
ومعنى قوله: {وَلَهَدَيْناهُمْ}: ولوفقناهم للصراط المستقيم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 67]
{ولهديناهم صراطا مستقيما}] يحتمل وجهين: (أحدهما:) الأجر العظيم في الآخرة. والثاني: يحتمل في الدنيا كقوله تعالى: {فنسيره لليسرى} (الليل: 7)...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ولهديناهم} وللطفنا بهم ووفقناهم لازدياد الخيرات.
قوله: {ولهديناهم صراطا مستقيما} وفيه قولان:
أحدهما: أن الصراط المستقيم هو الدين الحق، ونظيره قوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله}.
والثاني: أنه الصراط الذي هو الطريق من عرصة القيامة، وذلك لأنه تعالى ذكره بعد ذكر الثواب والأجر، والدين الحق مقدم على الثواب والأجر، والصراط الذي هو الطريق من عرصة القيامة إلى الجنة إنما يحتاج إليه بعد استحقاق الأجر، فكان حمل لفظ الصراط في هذا الموضع على هذا المعنى أولى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولهديناهم} أي بما لنا من العظمة {صراطاً مستقيماً} أي يوصلهم إلى مرادهم، وقد عظم سبحانه وتعالى هذا الأجر ترغيباً في الطاعة أنواعاً من العظم منها التنبيه ب "إذا"، والإتيان بصيغة العظمة و "لدن "مع العظمة والوصف بالعظيم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
الصراط المستقيم هنا هو طريق العمل الصالح على الوجه الصحيح. وأقول: إن هذه الهداية الرابعة التي شرحها الأستاذ في تفسير سورة الفاتحة. والصراط هنا هو الصراط هناك: صراط الذين أنعم عليهم المذكورين في الآية التالية، غير المغضوب عليهم ولا الضالين. وصرح بذلك في تفسير الآية: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 66]
وبعد أن يقرر أن لا إيمان قبل تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل الرضى والتسليم بقضائه، يعود ليقول: إن هذا المنهج الذي يدعون إليه؛ وهذه الشريعة التي يقال لهم: تحاكموا إليها -لا لسواها- وهذا القضاء الذي يتحتم عليهم قبوله والرضاء به... إنه منهج ميسر، وشريعة سمحة، وقضاء رحيم.. إنه لا يكلفهم شيئا فوق طاقتهم؛ ولا يكلفهم عنتا يشق عليهم؛ ولا يكلفهم التضحية بعزيز عليهم.. فالله يعلم ضعف الإنسان؛ ويرحم هذا الضعف. والله يعلم أنهم لو كلفوا تكاليف شاقة، ما أداها إلا قليل منهم.. وهو لا يريد لهم العنت، ولا يريد لهم أن يقعوا في المعصية.. ومن ثم لم يكتب عليهم ما يشق، وما يدعو الكثيرين منهم للتقصير والمعصية. ولو أنهم استجابوا للتكاليف اليسيرة التي كتبها الله عليهم؛ واستمعوا للموعظة التي يعظهم الله بها؛ لنالوا خيرا عظيما في الدنيا والآخرة؛ ولأعانهم الله بالهدى، كما يعين كل من يجاهد للهدى بالعزم والقصد والعمل والإرادة، في حدود الطاقة: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم، أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه -إلا قليل منهم- ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به، لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا؛ وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما؛ ولهديناهم صراطا مستقيمًا)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {ولهديناهم صراطاً مستقيماً} أي لفتحنا لهم طرق العلم والهداية، لأنّ تصدّيهم لامتثال ما أمروا به هو مبدأ تخلية النفوس عن التعلق بأوهامها وعوائدها الحاجبة لها عن دَرْك الحقائق، فإذا ابتدأوا يرفضون هذه المواقع فقد استعدّوا لتلقّي الحكمة والكمالات النفسانية ففاضت عليهم المعارف تترى بدلالة بعضها على بعض وبتيسير الله صعبها بأنوار الهداية والتوفيق، ولا شكّ أنّ الطاعة مفتاح المعارف بعد تعاطي أسبابها...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{ولهديناهم صراطا مستقيما} الصراط هو الطريق، والمستقيم هو الذي يوصل إلى غايته أو هدفه، ويقول علماء الهندسة: إن الخط المستقيم هو أقرب خط بين نقطتين، فالصراط المستقيم هو أقرب طريق يوصل إلى الحق، والهداية هنا هي التوفيق لأقرب طريق موصل إلى الله تعالى. ومعنى النص الكريم: من أجاب داعي الحق، وقام بالأوامر والنواهي على وجهها الأكمل، وفقه الله تعالى إلى طريقه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، ويصل بذلك إلى القرب من الله تعالى، فإن الذي يتقرب إلى الله بالطاعات يصل إلى إدراك نوراني لحقائق العبودية. ولقد قال البيضاوي في تفسير هذه الآية: (يصلون بسلوكه جناب القدس، ويفتح عليهم أبواب الغيب، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم"، وإنه قد ورد أن العبد يتقرب إلى الله تعالى بنوافل الطاعات حتى يصير الله تعالى بصره الذي يبصر به وسمعه الذي يسمع به). وإن الأساس في الارتفاع إلى هذه المقامات العليا هو طاعة الله وطاعة رسوله، ولذا قال سبحانه: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين}...