وقوله : { فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ } : يقول : فأتوا بحجتكم من كتاب جاءكم من عند الله بأن الذي تقولون من أن له البنات ولكم البنين كما تقولون . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فَأَتْوا بِكِتابِكُمْ } : أي بعذركم إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ } أن هذا كذا بأن له البنات ولكم البنون .
وقوله : { إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } : يقول : إن كنتم صادقين أن لكم بذلك حُجّة .
والأمر في قوله : { فَأتُوا } أمر تعجيز مثل قوله : { وإن كنتم في ريب ممّا نزَّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } [ البقرة : 23 ] .
وإضافة الكتاب إليهم على معنى المفعولية ، أي كتاب مرسل إليكم . ومجادلتهم بهذه الجمل المتفننة رتبت على قانون المناظرة ؛ فابتدأهم بما يشبه الاستفسار عن دعويين : دعوى أن الملائكة بنات الله ، ودعوى أن الملائكة إناث بقوله : { فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثاً } [ الصافات : 149 - 150 ] .
ثم لما كان تفسيرهم لذلك معلوماً من متكرر أقوالهم نزّلوا منزلة المجيب بأن الملائكة بنات الله وأن الملائكة إناث . وإنما أريد من استفسارهم صورة الاستفسار مضايقة لهم ولينتقل من مقام الاستفسار إلى مقام المطالبة بالدليل على دعواهم ، فذلك الانتقال ابتداء مِن قوله : { وهم شاهِدونَ } [ الصافات : 150 ] وهو اسم فاعل من شهد إذا حضر ورأى ، ثم قوله : { أم لكم سلطانٌ مبين فأتوا بكِتابِكم إن كنتم صادِقينَ } فرددهم بين أن يكونوا قد استندوا إلى دليل المشاهدة أو إلى دليل غيره وهو هنا متعين لأن يكون خبراً مقطوعاً بصدقه ولا سبيل إلى ذلك إلاّ من عند الله تعالى ، لأن مثل هذه الدعوى لا سبيل إلى إثباتها غير ذلك ، فدليل المشاهدة منتف بالضرورة ، ودليل العقل والنظر منتف أيضاً إذ لا دليل من العقل يدل على أن الملائكة إناث ولا على أنهم ذكور .
فلما علم أن دليل العقل غير مفروض هنا انحصر الكلام معهم في دليل السمع وهو الخبر الصادق لأن أسباب العلم للخلق منحصرة في هذه الأدلة الثلاثة : أشير إلى دليل الحس بقوله : { وهُم شاهِدونَ } ، وإلى دليلي العقل والسمع بقوله : { أم لكم سلطانٌ مبين } ، ثم فرع عليه قوله : { فأتوا بكتابِكم إن كنتم صادقين } وهو دليل السمع . فأسقط بهذا التفريع احتمال دليل العقل لأن انتفاءه مقطوع إذ لا طريق إليه وانحصر دليل السمع في أنه من عند الله كما علمت إذ لا يعلم ما في غيب الله غيرُه .
ثم خوطبوا بأمر التعجيز بأن يأتوا بكتاب أي بكتاب جاءهم من عند الله . وإنما عيّن لهم ذلك لأنهم يعتقدون استحالة مجيء رسول من عند الله واستحالة أن يكلم الله أحداً من خلقه ، فانحصر الدليل المفروض من جانب السمع أن يكون إخباراً من الله في أن ينزَّل عليهم كتاب من السماء لأنهم كانوا يجوّزون ذلك لقولهم : { ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } [ الإسراء : 93 ] ، ولن يستطيعوا أن يأتوا بكتاب .
فذكر لفظ « كتابكم » إظهار في مقام الإِضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال : فأتوا به ، أي السلطان المبين فإنه لا يحتمل إلا أن يكون كتاباً من عند الله . وإضافة كتاب إلى ضميرهم من إضافة ما فيه معنى المصدر إلى معنى المفعول على طريقة الحذف والإِيصال ، والتقدير : بكتاب إليكم ، لأن ما فيه مادة الكتابة لا يتعدّى إلى المكتوب إليه بنفسه بل بواسطة حرف الجر وهو ( إلى ) .
فلا جرم قد اتضح إفحامهم بهذه المجادلة الجارية على القوانين العقلية ولذلك صاروا كالمعترفين بأن لا دليل لهم على ما زعموه فانتقل السائل المستفتي من مقام الاعتراض في المناظرة إلى انقلابه مستدلاً باستنتاج من إفحامهم وذلك هو قوله : { ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد اللَّه وإنهم لكاذبون }
[ الصافات : 151 - 152 ] الواقععِ معترضاً بين الترديد في الدليل .
وأما قوله : { أصطفى البنات على البنين } فذلك بمنزلة التسليم في أثناء المناظرة كما علمت عند الكلام عليه ، وهذا يسمى المعارضة . وإنما أقحم في أثناء الاستدلال عليهم ولم يجعل مع حكاية دعواهم ليكون آخرُ الجدل معهم هو الدليلَ الذي يجرف جميع ما بنوه وهو قوله : { أم لكم سلطانٌ مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادِقينَ } . فهذا من بديع النسيج الجامع بين أسلوب المناظرة وأسلوب الموعظة وأسلوب التعليم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.