وحين تبلغ الموجة أقصى مدها ، بعرض هذه المشاهد المتوالية ، والتعقيبات الموحية ، والإيقاعات التي تحمل الإنذار إلى أعماق السرائر . . تختم ببيان وظيفة الرسل ، الذين تطالبهم أقوامهم بالخوارق ، وإن هم إلا مبلغين ، مبشرين ومنذرين ، ثم يكون بعد ذلك من أمر الناس ما يكون ، وفق ما يتخذونه لأنفسهم من مواقف يترتب عليها الجزاء الأخير :
( وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين . فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون ) . .
لقد كان هذا الدين يعد البشرية للرشد العقلي ، ويؤهلها لاستخدام هذه الأداة العظيمة التي وهبها الله للإنسان استخداما كاملا في إدراك الحق الذي تنبث آياته في صفحات الوجود ، وفي أطوار الحياة ، وفي أسرار الخلق ؛ والذي جاء هذا القرآن لكشفه وتجليته وتوجيه الإدراك البشري أليه . .
وكان هذا كله يقتضي الانتقال بالبشرية من عهد الخوارق الحسية ؛ التي تلوي الأعناق وتجبر المنكرين على الإذعان ، أمام القهر بالخارقة المادية البادية للعيان ! إلى توجيه الإدراك البشري لملاحظة بدائع الصنعة الإلهية في الوجود كله . وهي في ذاتها خوارق معجزة . . ولكنها خوارق دائمة يقوم عليها كيان الوجود ، ويتألف منها قوامه . وإلى مخاطبة هذا الإدراك بكتاب من عند الله باهر ، معجز في تعبيره ومعجز في منهجه ، ومعجز في الكيان الاجتماعي العضوي الحركي الذي يرمي إلى إنشائه على غير مثال . والذي لم يلحق به من بعده أي مثال !
وقد اقتضى هذا الأمر تربية طويلة ، وتوجيها طويلا ، حتى يألف الإدراك البشري هذا اللون من النقلة ، وهذا المدى من الرقي ؛ وحتى يتجه الإنسان إلى قراءة سفر الوجود بإدراكه البشري ، في ظل التوجيه الرباني ، والضبط القرآني ، والتربية النبوية . . قراءة هذا السفر قراءة غيبية واقعية إيجابية في آن واحد ، بعيدة عن منهج التصورات الذهنية التجريدية التي كانت سائدة في قسم من الفلسفة الإغريقية واللاهوت المسيحي ، وعن منهج التصورات الحسية المادية التي كانت سائدة في قسم من تلك الفلسفة وفي بعض الفلسفة الهندية والمصرية والبوذية والمجوسية كذلك ، مع الخروج من الحسية الساذجة التي كانت سائدة في العقائد الجاهلية العربية !
وجانب من تلك التربية وهذا التوجيه يتمثل في بيان وظيفة الرسول ، وحقيقة دوره في الرسالة على النحو الذي تعرضه هاتان الآيتان - كما ستعرضه الموجة التالية في سياق السورة - فالرسول بشر ، يرسله الله ليبشر وينذر ، وهنا تنتهي وظيفته ، وتبدأ استجابة البشر ، ويمضي قدر الله ومشيئته من خلال هذه الاستجابة ، وينتهي الأمر بالجزاء الإلهي وفق هذه الاستجابة . . فمن آمن وعمل صالحا يتمثل فيه الإيمان ، فلا خوف عليه مما سيأتي ولا هو يحزن على ما أسلف . فهناك المغفرة على ما أسلف ، والثواب على ما أصلح . . ومن كذب بآيات الله التي جاءه بها الرسول ، والتي لفته إليها في صفحات هذا الوجود . يمسهم العذاب بسبب كفرهم ، الذي يعبر عنه هنا بقوله : ( بما كانوا يفسقون )حيث يعبر القرآن غالبا عن الشرك والكفر بالظلم والفسق في معظم المواضع . .
تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض . وبيان محكم عن الرسول ووظيفته وحدود عمله في هذا الدين . . تصور يفرد الله سبحانه بالألوهية وخصائصها ؛ ويرد إلى مشيئة الله وقدره الأمر كله ، ويجعل للإنسان - منخلال ذلك - حرية اتجاهه وتبعة هذا الاتجاه ، ويبين مصائر الطائعين لله والعصاة بيانا حاسما ؛ وينفي كل الأساطير والتصورات الغامضة عن طبيعة الرسول وعمله ، مما كان سائدا في الجاهليات . . وبذلك ينقل البشرية إلى عهد الرشد العقلي ؛ دون أن يضرب بها في تيه الفلسفات الذهنية ، والجدل اللاهوتي ، الذي استنفذ طاقة الإدراك البشري أجيالا بعد أجيال ! ! !
وأوعد الذين سلكوا طريق النذارة فكذب بآيات الله ، وفسق أي خرج عن الحد في كفرانه وعصيانه ، وقال ابن زيد : كل فسق في القرآن فمعناه الكذب ، ذكره عنه الطبري مسنداً و { يمسهم } أي يباشرهم ويلصق بهم ، وقرأ الحسن والأعمش { العذاب بما } بإدغام الباء في الباء ، ورويت عن أبي عمرو ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش «يفسِقون » بكسر السين وهي لغة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والذين كذبوا بآياتنا}: بالقرآن، يعني كفار مكة، {يمسهم}: يصيبهم {العذاب بما كانوا يفسقون}: يعصون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وأما الذين كذّبوا بمن أرسلنا إليهم من رسلنا وخالفوا أمرنا ونهينا ودافعوا حجتنا، فإنهم يباشرهم عذابنا وعقابنا على تكذيبهم ما كذّبوا به من حججنا "بِمَا كانُوا يَفْسُقُونَ": بما كانوا يكذبون. وكان ابن زيد يقول: كل فسق في القرآن، فمعناه الكذب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هذه هي النذارة. وقوله تعالى: {يمسهم العذاب} ذكر المس، والله أعلم، لما لم يفارقهم العذاب، ولا يزول عنهم. والفسق في هذا الموضع الكفر والشرك، وما ذكر من الظلم هو ظلم شرك وكفر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
جعل العذاب ماساً، كأنه حيّ يفعل بهم ما يريد من الآلام.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وأوعد الذين سلكوا طريق النذارة فكذب بآيات الله، وفسق أي خرج عن الحد في كفرانه وعصيانه... و {يمسهم} أي يباشرهم ويلصق بهم.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
جعل العذاب ماسا لهم كأنه الطالب للوصول إليهم، واستغنى بتعريفه عن التوصيف. {بما كانوا يفسقون} بسبب خروجهم عن التصديق والطاعة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بين حال المصلحين، أتبعه حال المفسدين فقال: {والذين كذبوا بآياتنا} أي على ما لها بنسبتها إلينا من العظمة {يمسهم العذاب} أي الدائم المتجدد، وكني عن قربه بأن جعل له قوة المس، كأنه حي مريد فقال: {بما كانوا} أي جبلة وطبعاً {يفسقون} أي يديمون الخروج مما ينبغي الاستقرار فيه من الإيمان وما يقتضيه، وأما الفسق العارض فإن صاحبه يصدر التوبة منه فيعفى عنه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون (49)} أي والذين كذبوا بآياتنا التي أرسلنا بها الرسل يصيبهم العذاب في الدنيا أحيانا ولا سيما عند الجحود والعناد، الذي يكون من المجموع دون بعض الأفراد، وفي الآخرة على سبيل الشمول والاطراد، وذلك بسبب فسقهم أي كفرهم وإفسادهم. فهؤلاء قد ذكروا في مقابل الذين آمنوا وأصلحوا أنفسهم وأعمالهم ومعاملاتهم، فالتكذيب يقابل الإيمان؛ والفسق يقابل الإصلاح، وإن كان أعم منه في اللغة والاصطلاح، فهو يطلق على الكفر والخروج من الطاعة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المسُّ حقيقته مباشرة الجسم باليد وهو مرادف اللمس والجسّ، ويستعار لإصابة جسم جسماً آخر كما في هذه الآية.
وقد تقدّم في قوله تعالى: {ليَمَسَّنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم} في سورة [المائدة: 73]. ويستعار أيضاً للتَّكيّف بالأحوال كما يقال: به مسّ من الجنون. قال تعالى: {إنّ الذين اتَّقوا ءا مسَّهم طائف من الشيطان تذكَّروا فإذا هم مبصرون} [الأعراف: 201].
وجمع الضمائر العائدة إلى (مَنْ) مراعاة لمعناها، وأمَّا إفراد فعل {آمن} و {أصلح} فلرعي لفظها.
والباء للسببية، و (ما) مصدرية، أي بسبب فسقهم. والفسق حقيقته الخروج عن حدّ الخير. وشاع استعماله في القرآن في معنى الكفر وتجاوز حدود الله تعالى. وتقدّم تفصيله عند قوله تعالى: {وما يضلّ به إلاّ الفاسقين} في سورة [البقرة: 26].
وجيء بخبر (كان) جملة مضارعية للإشارة إلى أنّ فسقهم كان متجدّداً متكرّراً، على أنّ الإتيان ب (كان) أيضاً للدلالة على الاستمرار لأنّ (كان) إذا لم يقصد بها انقضاء خبرها فيما مضى دلَّت على استمرار الخبر بالقرينة، كقوله تعالى: {وكان الله غفوراً رحيما} [النساء: 96].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أولئك هم المقابلون للذين أذعنوا للحق وعملوا عملا صالحا، وهؤلاء كذبوا بآيات الله، ويراد بالتكذيب للآيات الإعراض عن الأدلة القاطعة المثبتة لوحدانية الله تعالى من كونيات ظاهرة ومعجزات قاهرة وآيات قرآنية بينة واضحة باهرة، فلم يكن تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم فقط، بل كان تكذيبهم للأدلة الواضحة التي تشبه الحس المرئي والبارز المحسوس، وهذه الآيات هي التي ساقها الله لهم وهو خالق الكون ومدبره وقال في عقوبتهم (يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون) أي يصيبهم العذاب بسبب فسقهم أي خروجهم عن الحق وإنكارهم لما يوجب العقل الإيمان به، وأردفوا كذلك بفعل الموبقات، فإن كان المؤمنون قد أذعنوا للحق، وزكوه بالعمل الصالح فأولئك أنكروا الحق، ودعموا الإنكار بارتكاب الموبقات والزور من الأعمال.
والذين كذبوا بآيات الله هم إما من كذب الرسول في الآيات الدالة على صدقه وهو المبلغ عن الله، وهؤلاء دخلوا في دائرة الكفر. وإما هم الذين كذبوا بآيات المنهج، فلم يستخدموا المنهج على أصوله وانحرفوا على الصراط المستقيم والطريق السوي. وهؤلاء وهؤلاء قد فسقوا، أي خرجوا عن الطاعة، ونعلم أن كلمة (الفسق) مأخوذة من خروج (الرطبة) عن قشرتها عندما يصير حجمها أصغر بما كانت عليه لاكتمال نضجها. والذي يفسق عن منهج الله هو الذي يقع في الخسران؛ لأن منهج الله هدفه صيانة الإنسان المخلوق لله ب (افعل كذا) و (لا تفعل كذا). إن الإنسان يفسق عندما لا يفعل ما أمره الله أن يفعله، أو يفعل ما نهاه الله عن أن يفعله.