معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ} (86)

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ} (86)

82

ولكن السياق القرآني لا يقف عند هذا الحد في تحديد ملامح هذا الفريق المقصود من الناس الذين تجدهم أقرب مودة للذين آمنوا بل إنه ليمضي فيميزه من الفريق الآخر من الذين قالوا : إنا نصارى ممن يسمعون هذا الحق فيكفرون به ويكذبون ، ولايستجيبون له ، ولا ينضمون إلى صفوف الشاهدين : ( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ) : . .

والمقصود قطعا بالذين كفروا وكذبوا في هذا الموضع هم الذين يسمعون - من الذين قالوا إنا نصارى - ثم لا يستجيبون . . والقرآن يسميهم الكافرين كلما كانوا في مثل هذا الموقف . سواء في ذلك اليهود والنصارى ؛ ويضمهم إلى موكب الكفار مع المشركين سواء ؛ ما داموا في موقف التكذيب لما أنزل الله على رسوله من الحق ؛ وفي موقف الامتناع عن الدخول في الإسلام الذي لا يقبل الله من الناس دينا سواه . . نجد هذا في مثل قول الله سبحانه :

( لم يكن الذين كفروا - من أهل الكتاب والمشركين - منفكين حتى تأتيهم البينة ) . .

( إن الذين كفروا - من أهل الكتاب والمشركين - في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية ) . .

( لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة ) . .

( لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم ) . .

( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ) . .

فهو تعبير مألوف في القرآن ، وحكم معهود . . وهو يأتي هنا للتفرقة بين فريقين من الذين قالوا : إنا نصارى ؛ وللتفرقة بين موقف كل فريق منهما تجاه الذين آمنوا ؛ وللتفرقة كذلك بين مصير هؤلاء وأولئك عند الله . . هؤلاء لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين وأولئك أصحاب الجحيم . .

وليس كل من قالوا : إنهم نصارى إذن داخلين في ذلك الحكم : ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا ) . . كما يحاول أن يقول من يقتطعون آيات القرآن دون تمامها إنما هذا الحكم مقصور على حالة معينة لم يدع السياق القرآني أمرها غامضا ، ولا ملامحها مجهلة ، ولا موقفها متلبسا بموقف سواها في كثير ولا قليل . .

ولقد وردت روايات لها قيمتها في تحديد من هم النصارى المعنيون بهذا النص :

أورد القرطبي في تفسيره : " وهذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه ، لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الأولى - حسب ما هو مشهور في سيرة ابن اسحاق وغيره - خوفا من المشركين وفتنتهم ؛ وكانوا ذوي عدد ثم هاجر رسول الله [ ص ] إلى المدينة بعد ذلك فلم يقدروا على الوصول إليه ، حالت بينهم وبين رسول الله [ ص ] الحرب فلما كانت وقعة بدر وقتل الله فيها صناديد الكفار ، قال كفارقريش : إن ثأركم بأرض الحبشة فأهدوا إلى النجاشي وابعثوا له برجلين من ذوي رأيكم يعطيكم من عنده ، فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر . فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة بهدايا . فسمع رسول الله [ ص ] بذلك ، فبعث رسول الله [ ص ] عمرو بن أمية الضمري وكتب معه إلى النجاشي ؛ فقدم على النجاشي ، فقرأ كتاب رسول الله [ ص ] ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين ، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم . ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن ، فقرأ سورة " مريم " فقاموا تفيض أعينهم من الدمع . فهم الذين أنزل الله فيهم : ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى )وقرأ إلى ( الشاهدين )[ رواه أبو داود . قال : حدثنا محمد بن مسلمة المرادي ، قال : حدثنا ابن وهب . قال : أخبرني يونس عن ابن شهاب ، عن أبي بكر عبدالرحمن بن الحرث بن هشام . وعن سعيد بن المسيب وعن عروة بن الزبير : أن الهجرة الأولى هجرة المسلمين إلى أرض الحبشة . وساق الحديث بطوله ] .

" وذكر البيهقي عن ابن إسحاق قال : قدم على النبي [ ص ] عشرون رجلا وهو بمكة ، أو قريب من ذلك ، من النصارى حين ظهر خبره ، من الحبشة ، فوجدوه في المسجد ، فكلموه وسألوه ، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة . فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله [ ص ] عما أرادوا ، دعاهم رسول الله [ ص ] إلى الله عز وجل ، وتلا عليهم القرآن . فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه ، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره . فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا : خيبكم الله من ركب ! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل ، فلم تطل مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم ، ما نعلم ركبا أحمق منكم - أو كما قال لهم - فقالوا : سلام عليكم لا نجاهلكم ، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ، لا نألو أنفسنا خيرا . . فيقال : إن النفر النصارى من أهل نجران . ويقال : إن فيهم نزلت هؤلاء الآيات : ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ) إلى قوله : ( لا نبتغي الجاهلين ) .

" وقيل : إن جعفرا وأصحابه قدم على النبي [ ص ] في سبعين رجلا عليهم ثياب الصوف ، فيهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم بحيراء الراهب وإدريس وأشرف وأبرهة وثمامة وقثم ودريد وأيمن . فقرأ عليهم رسول الله [ ص ] سورة " يس " إلى آخرها ، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا به ، وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى فنزلت فيهم ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى ) يعني وفد النجاشي وكانوا أصحاب الصوامع وقال سعيد بن جبير : وأنزل الله فيهم أيضا( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون )إلى قوله ( أولئك يؤتون أجرهم مرتين )إلى آخر الآية وقال مقاتل والكلبي كانوا أربعين رجلا من أهل نجران من بني الحرث بن كعب ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية وستين من أهل الشام وقال قتادة : نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى ، فلما بعث الله محمدًا [ ص ] آمنوا به فأثنى الله عليهم "

وهذا الذي نقرره في معنى هذا النص ؛ والذي يدل عليه السياق بذاته ، وتؤيده هذه الروايات التي أسلفنا ، هو الذي يتفق مع بقية التقريرات في هذه السورة وفي غيرها عن موقف أهل الكتاب عامة - اليهود والنصارى - من هذا الدين وأهله 0كما أنه هو الذي يتفق مع الواقع التاريخي الذي عرفته الأمة المسلمة خلال أربعة عشر قرنا .

إن السورة وحدة في اتجاهها وظلالها وجوها وأهدافها ؛ وكلام الله سبحانه لا يناقض بعضه بعضا ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا ) . . وقد وردت في هذه السورة نفسها نصوص وتقريرات ، تحدد معنى هذا النص الذي نواجهه هنا وتجلو نذكر منها :

( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض ، ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) . .

قل : يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ، فلا تأس على القوم الكافرين . .

كذلك جاء في سورة البقرة : ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل : إن هدى الله هو الهدى ؛ ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير . .

كذلك صدق الواقع التاريخي ما حذر الله الأمة المسلمة إياه ؛ من اليهود ومن النصارى سواء وإذا كان الواقع التاريخي قد حفظ لليهود وقفتهم النكدة للإسلام منذ اليوم الأول الذي دخل فيه الإسلام عليهم المدينة ؛ في صورة كيد لم ينته ولم يكف حتى اللحظة الحاضرة ؛ وإذا كان اليهود لا يزالون يقودون الحملة ضد الإسلام في كل أرجاء الأرض اليوم في حقد خبيث وكيد لئيم فإن هذا الواقع قد حفظ كذلك للنصارى الصليبيين أنهم اتخذوا من الإسلام موقف العداء منذ واقعة اليرموك بين جيش المسلمين وجيوش الروم - فيما عدا الحالات التي وقع فيها ما تصفه الآيات التي نحن بصددها فاستجابت قلوب للإسلام ودخلت فيه وفيما عدا حالات أخرى آثرت فيها طوائف من النصارى أن تحتمي بعدل الإسلام من ظلم طوائف أخرى من النصارى كذلك ؛ يلاقون من ظلمها الوبال ! - أما التيار العام الذي يمثل موقف النصارى جملة فهو تلك الحروب الصليبية التي لم يخب أوارها قط - إلا في الظاهر - منذ التقى الإسلام والرومان على ضفاف اليرموك ! لقد تجلت أحقاد الصليبية على الإسلام وأهله في الحروب الصليبية المشهورة طوال قرنين من الزمان ، كما تجلت في حروب الابادة التي شنتها الصليبية على الاسلام والمسلمين في الاندلس ر ، ثم في حملات الاستعمار والتبشير على المماليك الإسلامية في إفريقية أولا ، ثم في العالم كله أخيرا . .

ولقد ظلت الصهيونية العالمية والصليبة العالمية حليفتين في حرب الإسلام - على كل ما بينهما من أحقاد - ولكنهم كانوا في حربهم للإسلام كما قال عنهم العليم الخبير : ( بعضهم أولياء بعض )حتى مزقوا دولة الخلافة الأخيرة ثم مضوا في طريقهم ينقضون هذا الدين عروة عروة . وبعد أن أجهزوا على عروة( الحكم )ها هم أولاء يحاولون الإجهاز على عروة " الصلاة " !

ثم ها هم أولاء يعيدون موقف اليهود القديم مع المسلمين والوثنين فيؤيدون الوثنية حيثما وجدت ضد الإسلام عن طريق المساعدات المباشرة تارة ، وعن طريق المؤسسات الدولية التي يشرفون عليها تارة أخرى ! وليس الصراع بين الهند وباكستان على كشمير وموقف الصليبية منها ببعيد .

وذلك فوق إقامة واحتضان وكفالة الأوضاع التي تتولى سحق حركات الإحياء والبعث الإسلامية في كل مكان على وجه الأرض . وإلباس القائمين بهذه الأوضاع أثواب البطولة الزائفة ودق الطبول من حولهم ، ليستطيعوا الإجهاز على الإسلام ، في زحمة الضجيج العالمي حول الأقزام الذين يلبسون أردية الأبطال !

هذا موجز سريع لما سجله الواقع التاريخي طوال أربعة عشر قرنا ؛ من موقف اليهودية والصليبية تجاه الإسلام ؛ لا فرق بين هذه وتلك ؛ ولا افتراق بين هذا المعسكر وذاك في الكيد للإسلام ، والحقد عليه ، والحرب الدائبة التي لا تفتر على امتداد الزمان .

وهذا ما ينبغي أن يعيه الواعون اليوم وغدا ؛ فلا ينساقوا وراء حركات التمييع الخادعة أو المخدوعة ؛ التي تنظر إلى أوائل مثل هذا النص القرآني - دون متابعة لبقيته ؛ ودون متابعة لسياق السورة كله ، ودون متابعة لتقريرات القرآن عامة ، ودون متابعة للواقع التاريخي الذي يصدق هذا كله - ثم تتخذ من ذلك وسيلة لتخدير مشاعر المسلمين تجاه المعسكرات التي تضمر لهم الحقد وتبيت لهم الكيد ؛ الأمر الذي تبذل فيه هذه المعسكرات جهدها ، وهي بصدد الضربة الأخيرة الموجهة إلى جذور العقيدة .

إن هذه المعسكرات لا تخشى شيئا أكثر مما تخشى الوعي في قلوب العصبة المؤمنة - مهما قل عددها وعدتها - فالذين ينيمون هذا الوعي هم أعدى أعداء هذه العقيدة . وقد يكون بعضهم من الفرائس المخدوعة ؛ ولكن ضررهم لا يقل - حينئذ - عن ضرر أعدى الأعداء ، بل إنه ليكون أشد أذى وضرا .

إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ؛ وهو لا يناقض بعضه بعضا ، فلنقرأه إذن على بصيرة . .