ولهذا قال تعالى ، ناقضا لقولهم : { بَلْ جَاءَ } محمد { بِالْحَقِّ } أي : مجيئه حق ، وما جاء به من الشرع والكتاب حق . { وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } [ أي : ومجيئه صدق المرسلين ] فلولا مجيئه وإرساله لم يكن الرسل صادقين ، فهو آية ومعجزة لكل رسول قبله ، لأنهم أخبروا به وبشروا ، وأخذ اللّه عليهم العهد والميثاق ، لئن جاءهم ، ليؤمنن به ولينصرنه ، وأخذوا ذلك على أممهم ، فلما جاء ظهر صدق الرسل الذين قبله ، وتبين كذب من خالفهم ، . فلو قدر عدم مجيئه ، وهم قد أخبروا به ، لكان ذلك قادحا في صدقهم .
وصدق أيضا المرسلين ، بأن جاء بما جاءوا به ، ودعا إلى ما دعوا إليه ، وآمن بهم ، وأخبر بصحة رسالتهم ونبوتهم وشرعهم .
قال الله تعالى تكذيبا لهم ، وردا عليهم : { بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ } يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالحق في جميع شرْعة{[24950]} الله له من الإخبار والطلب ، { وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } أي : صدّقهم فيما أخبروه{[24951]} عنه من الصفات الحميدة ، والمناهج السديدة ، وأخبر عن الله في شرعه [ وقدره ] وأمره كما أخبروا ، { مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ } الآية [ فصلت : 43 ] .
وقوله : بَلْ جاءَ بالحَقّ وهذا خبر من الله مكذّبا للمشركين الذين قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : شاعر مجنون ، كذبوا ، ما محمد كما وصفوه به من أنه شاعر مجنون ، بل هو الله نبيّ جاء بالحقّ من عنده ، وهو القرآن الذي أنزله عليه ، وصدّق المرسلين الذين كانوا من قبله . وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة بَلْ جاءَ بالحَقّ بالقرآن وَصَدّقّ المُرْسَلِينَ : أي صدّق من كان قبله من المرسلين .
اعتراض في آخر الاعتراض قُصدت منه المبادرة بتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عما قالوه .
و { بل } إضراب إبطال لقولهم : { لِشاعر مجنون } [ الصافات : 36 ] وبإثبات صفته الحقِّ لبيان حقيقة ما جاء به . وفي وصف ما جاء به أنه الحق ما يكفي لنفي أن يكون شاعراً ومجنوناً ، فإن المشركين ما أرادوا بوصفه بشاعر أو مجنون إلا التنفير من اتِّباعه فمثلوه بالشاعر من قبيلة يهجو أعداء قبيلته ، أو بالمجنون يقول ما لا يقوله عقلاء قومه ، فكان قوله تعالى : { بل جاءَ بالحقِ } مثبتاً لكون الرسول على غير ما وصفوه إثباتاً بالبينة .
وأتبع ذلك بتذكيرهم بأنه ما جاء إلا بمثل ما جاءت به الرسل من قَبله ، فكان الإِنصاف أن يلحقوه بالفريق الذي شابههم دون فريق الشعراء أو المجانين .
وتصديق المرسلين يجمع ما جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إجمالاً وتفصيلاً ، لأن ما جاء به لا يعدو أن يكون تقريراً لما جاءت به الشرائع السالفة فهو تصديق له ومصادقة عليه ، أو أن يكون نسخاً لما جاءت به بعض الشرائع السالفة ، والإِنباءُ بنسخه وانتهاءِ العمل به تصديق للرسل الذين جاءوا به في حين مجيئهم به ، فكل هذا مما شمله معنى التصديق ، وأول ذلك هو إثبات الوحدانية بالربوبية لله تعالى . فالمعنى : أن ما دعاكم إليه من التوحيد قد دعت إليه الرسل من قبله ، وهذا احتجاج بالنقل عقب الاحتجاج بأدلة النظر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
محمدا صلى الله عليه وسلم جاء بالتوحيد {وصدق المرسلين} قبله.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"بَلْ جاءَ بالحَقّ" وهذا خبر من الله مكذّبا للمشركين الذين قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: شاعر مجنون، كذبوا، ما محمد كما وصفوه به من أنه شاعر مجنون، بل هو لله نبيّ جاء بالحقّ من عنده، وهو القرآن الذي أنزله عليه، وصدّق المرسلين الذين كانوا من قبله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{بالحق} قال بعضهم: بالحق الذي لله عليهم وما لبعضهم على بعض، وأصل الحق أن كل ما يُحمد على فعله هو الحق، وكل ما يُذم عليه هو باطل.
{وصدّق المرسلين} أخبر أنه صدّق إخوانه من المرسلين.
{بل جاء بالحق} وهو كل آياته من التوحيد والإسلام والرسالة.
{وصدق المرسلين} الذين كانوا قبله في جميع ما جاؤوا به من الحق.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
{وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} أتى بما أتوا به.
تنبيه على أن القول بالتوحيد دين لكل الأنبياء...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
قرأ عبد الله: وصدق بتخفيف الدال، المرسلون بالواو رفعاً، أي وصدق المرسلون في التبشير به وفي أنه يأتي آخرهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان مرادهم بذلك أن كلامه باطل، فإن أكثر كلام الشاعر غلو وكذب وكلام المجنون تخليط، كان كأنه قال في جوابهم: إنه لم يجئ بشعر ولا بجنون: {بل جاء بالحق} أي الكامل في الحقية.
ولما كان ما جاء به أهلاً لكونه حقاً؛ لأن يقبل وإن خالف جميع أهل الأرض، وكان موافقاً مع ذلك لمن تقرر صدقهم واشتهر اتباع الناس لهم، فكان أهلاً لأن يقبله هؤلاء الذين أنزلوا أنفسهم عن أوج معرفة الرجال بالحق، إلى حضيض معرفة الحق على زعمهم بالرجال، فكان مآل أمرهم التقليد قال: {وصدق المرسلين} أي الذين علم كل ذي لب أنهم أكمل بدور أضاء الله بهم الأكوان في كل أوان، وتقدم في آخر سورة فاطر أنهم عابوا من كذبهم {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم أحد منهم ليؤمنن به فكذبوا} بأن كذبوا سيدهم بهذا الكلام المتناقض...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يكمل التعليق متوجهاً فيه بالتأنيب والتقبيح، لقائلي هذا الكلام المرذول: (بل جاء بالحق وصدق المرسلين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
في وصف ما جاء به أنه الحق ما يكفي لنفي أن يكون شاعراً ومجنوناً، فإن المشركين ما أرادوا بوصفه بشاعر أو مجنون، إلا التنفير من اتِّباعه، فمثلوه بالشاعر من قبيلة يهجو أعداء قبيلته، أو بالمجنون يقول ما لا يقوله عقلاء قومه؛ وتصديق المرسلين يجمع ما جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إجمالاً وتفصيلاً، لأن ما جاء به لا يعدو أن يكون تقريراً لما جاءت به الشرائع السالفة، فهو تصديق له ومصادقة عليه، أو أن يكون نسخاً لما جاءت به بعض الشرائع السالفة فالمعنى: أن ما دعاكم إليه من التوحيد قد دعت إليه الرسل من قبله، وهذا احتجاج بالنقل عقب الاحتجاج بأدلة النظر.