فهذا قدامهم ، والحال أنهم في الدنيا في غفلة عن هذا الأمر العظيم لا يخطر بقلوبهم ، ولو خطر فعلى سبيل الغفلة ، قد عمتهم الغفلة ، وشملتهم السكرة ، فهم لا يؤمنون بالله ، ولا يتبعون رسله ، قد ألهتهم دنياهم ، وحالت بينهم وبين الإيمان شهواتهم المنقضية الفانية .
فالدنيا وما فيها ، من أولها إلى آخرها ، ستذهب عن أهلها ، ويذهبون عنها ، وسيرث الله الأرض ومن عليها ، ويرجعهم إليه ، فيجازيهم بما عملوا فيها ، وما خسروا فيها أو ربحوا ، فمن فعل خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومن إلا نفسه .
ثم ساق - سبحانه - ما يدل على كمال قدرته ، وشمول ملكه فقال : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا . . . } أى : إنا نحن وحدنا الذين نميت جميع الخلائق الساكنين بالأرض ، فلا يبقى لأحد غيرنا من سلطان عليهم أو عليها ، وهؤلاء الخلائق جميعاً { وَإِلَيْنَا } وحدنا { يُرْجَعُونَ } يوم القيامة ، فنحاسبهم على أعمالهم .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الوارثون } وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حدثتنا عن جانب من قصة زكريا ويحيى ، وعن قصة مريم وعيسى ، حديثاً يهدى إلى الرشد ، ويزيد المؤمنين إيماناً على إيمانهم ، ويقذف بحقه على باطل المبطلين فيدمغه فإذا هو زاهق .
وقوله : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } يخبر تعالى أنه الخالق المالك المتصرف ، وأن الخلق كلهم يهلكون ويبقى هو ، تعالى وتقدس ولا أحد يَدّعي مُلْكا ولا تصرفًا ، بل هو الوارث لجميع خلقه ، الباقي بعدهم ، الحاكم فيهم ، فلا تظلم نفس شيئًا ولا جناح بعوضة ولا مثقال ذرة .
قال ابن أبي حاتم : ذكر هدبة بن خالد القيسي : حدثنا حزم بن أبي حزم القُطَعي قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن صاحب الكوفة : أما بعد ، فإن الله كتب على خلقه حين خلقهم الموت ، فجعل مصيرهم إليه ، وقال فيما أنزل من كتابه الصادق الذي حفظه بعلمه ، وأشهد ملائكته على خلقه : أنه يرث الأرض ومن عليها ، وإليه يرجعون .
تذييل لختم القصة على عادة القرآن في تذييل الأغراض عند الانتقال منها إلى غيرها . والكلام موجّه إلى المشركين لإبلاغه إليهم .
وضمير { يرجعون } عائد إلى من عليها وإلى ما عاد إليه ضمير الغيبة في { وأنذرهم } [ مريم : 39 ] .
وحقيقة الإرث : مصير مال الميت إلى من يبقى بعده . وهو هنا مجاز في تمحض التصرف في الشيء دون مشارك . فإن الأرض كانت في تصرف سكانها من الإنسان والحيوان كلّ بما يناسبه ، فإذا هلك الناس والحيوان فقد صاروا في باطن الأرض وصارت الأرض في غير تصرفهم فلم يبق تصرف فيها إلا لخالقها ، وهو تصرف كان في ظاهر الأمر مشتركاً بمقدار ما خولهم الله التصرف فيها إلى أجلٍ معلوم ، فصار الجميع في محض تصرف الله ، ومن جملة ذلك تصرفه بالجزاء .
وتأكيد جملة { إنا نحن نرث الأرض } بحرف التوكيد لدفع الشك لأن المشركين ينكرون الجزاء ، فهم ينكرون أن الله يرث الأرض ومن عليها بهذا المعنى .
وأما ضمير الفصل في قوله نحن نرث الأرض فهو لمجرد التأكيد ولا يفيد تخصيصاً ، إذ لا يفيد ردّ اعتقادٍ مخالفٍ لذلك .
وظهر لي : أن مجيء ضمير الفصل بمجرد التأكيد كثير إذا وقع ضمير الفصل بعد ضمير آخر نحو قوله { إنني أنا الله } في سورة طه ( 14 ) ، وقوله : { وهم بالأخرة هم كافرون } في سورة يوسف ( 37 ) .
وأفاد هذا التذييل التعريف بتهديد المشركين بأنهم لا مفرّ لهم من الكون في قبضة الربّ الواحد الذي أشركوا بعبادته بعضَ ما على الأرض ، وأن آلهتهم ليست بمرجوة لنفعهم إذ ما هي إلاّ مما يرثه الله .
وبذلك كان موقع جملة وإلينا يرجعون بيّناً ، فالتقديم مفيد القصر ، أي لا يرجعون إلى غيرنا . ومحمل هذا التقديم بالنسبة إلى المسلمين الاهتمام ومحمله بالنسبة إلى المشركين القصر كما تقدم في قوله : { إنا نحن نرث الأرض } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.