وهنا يعلن المستكبرون عن موقفهم في عناد ، وصلف وجحود ، واستمع إلى القرآن وهو يحكى ذلك فيقول : { قَالَ الذين استكبروا إِنَّا بالذي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } .
أى : قال المستكبرون ردا على المؤمنين الفقراء : إنا بما آمنتم به كافرون ، ولم يقولوا إنا بما أرسل به كافرون ، إظهارا لمخالفتهم إياهم ، وردا على مقالتهم { إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } .
قال صاحب الانتصاف : ولو طابقوا بين الكلامين لكان مقتضى المطابقة أن يقولوا ، بما أرسل به كافرون ولكنهم أبوا ذلك حذرا مما في ظاهره من إثباتهم لرسالته ، وهم يجحدونها ، وقد يصدر مثل ذلك على سبيل التهكم ، كما قال فرعون : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ، فأثبت إرساله تهكما ، وليس المقام هنا مقام التهكم ، فإن الغرض إخبار كل واحد من الفريقين المؤمنين والمكذبين عن حاله ، فرد كل فريق على الآخر بما يناسبه " .
ومن ثم يعلن الملأ عن موقفهم في صراحة تحمل طابع التهديد :
( إنا بالذي آمنتم به كافرون ) . .
على الرغم من البينة التي جاءهم بها صالح . والتي لا تدع ريبة لمستريب . . إنه ليست البينة هي التي تنقص الملأ للتصديق . . إنه السلطان المهدد بالدينونة للرب الواحد . . إنها عقدة الحاكمية والسلطان ، إنها شهوة الملك العميقة في الإنسان ! إنه الشيطان الذي يقود الضالين من هذا الخطام !
مراجعة الذين استكبروا بقولهم : { إنا بالذي آمنتم به كافرون } تدلّ على تصلّبهم في كفرهم وثباتهم فيه ، إذ صيغ كلامهم بالجملة الاسميّة المؤكَّدة .
والموصول في قولهم : { بالذي آمنتم به } هو ما أرسل به صالح عليه السّلام . وهذا كلام جامع لرد ما جَمعه كلام المستضعفين حين { قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون } فهو من بلاغة القرآن في حكاية كلامهم وليس من بلاغة كلامهم .
ثمّ إنّ تقديم المجرورين في قوله : { بما أرسل به } و { بالذي آمنتم به } على عامليهما يجوز أن يكون من نظم حكاية كلامهم وليس له معادل في كلامهم المحكي ، وإنّما هو لتتقوّم الفاصلتان ، ويجوز أن يكون من المحكي : بأن يكون في كلامهم ما دلّ على الاهتمام بمدلول الموصولين ، فجاء في نظم الآية مدلولاً عليه بتقديم المعمولين .
وقرأ الجمهور : { قال الملأ } بدون عطف جرياً على طريقة أمثاله في حكاية المحاورات . وقرأه ابن عامر : { وقال } بحرف العطف وثبتت الواو في المصحف المبعوث إلى الشام خلافاً لطريقة نظائرها ، وهو عطف على كلام مقدّر دلّ عليه قوله : { قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون } والتّقدير : فآمن به بعض قومه ، وقال الملأ من قومه إلخ ، أو هو عطف على : { قال يا قوم اعبدوا الله } [ الأعراف : 73 ] الآية ، ومخالفةُ نظائره تفنّن .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قال الذين استكبروا عن أمر الله وأمر رسوله صالح: إنّا أيها القوم "بالّذِي آمَنْتُمْ بِهِ "يقول: صدّقتم به من نبوّة صالح، وأن الذي جاء به حقّ من عند الله "كَافِرُونَ" يقول: جاحدون منكرون، لا نصدّق به ولا نقرّ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فحملت الأنفة الأشراف على مناقضة المؤمنين في مقالتهم واستمروا على كفرهم.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{إنا بالذي آمنتم به كافرون} إنما لم يقولوا إنا بما أرسل به كما قال الآخرون لئلا يكون اعترافا برسالته...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إنا بالذي} ووضعوا موضع "أرسل به "-رداً لما جعلوه معلوماً وأخذوه مسلماً {آمنتم به} أي كائناً ما كان {كافرون}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن ثم يعلن الملأ عن موقفهم في صراحة تحمل طابع التهديد: (إنا بالذي آمنتم به كافرون).. على الرغم من البينة التي جاءهم بها صالح. والتي لا تدع ريبة لمستريب.. إنه ليست البينة هي التي تنقص الملأ للتصديق.. إنه السلطان المهدد بالدينونة للرب الواحد.. إنها عقدة الحاكمية والسلطان، إنها شهوة الملك العميقة في الإنسان! إنه الشيطان الذي يقود الضالين من هذا الخطام!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
مراجعة الذين استكبروا بقولهم: {إنا بالذي آمنتم به كافرون} تدلّ على تصلّبهم في كفرهم وثباتهم فيه، إذ صيغ كلامهم بالجملة الإسميّة المؤكَّدة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولكن هؤلاء المغرورين المتكبرين لم يكفوا عن عملهم، بل عادوا مرّة أُخرى إلى إضعاف معنوية المؤمنين (قال الذين استكبروا إنّا بالذي آمنتم به كافرون). وكانت هذه محاولة منهم لجرّ هؤلاء المستضعفين إلى صفوفهم مرّة أُخرى.
كانوا المقدّمين في المجتمع والأُسوة للآخرين على الدوام بما كانوا يتمتّعون به من قوة وثراء، لهذا كانوا يظنون أنّهم بإظهار الكفر سيكونون أسوة للآخرين أيضاً، وأن الناس سوف يتبعونهم كما كانوا يفعلون ذلك من قبل، ولكنّهم سرعان ما وقفوا على خطأهم، وعلموا أنّ الناس قد اكتسبوا بالإيمان بالله على شخصيّة حضارية جديدة واستقلال فكري، وقوة إرادة.
والجدير بالانتباه أنّ الأغنياء والملأ وُصِفُوا في الآيات الحاضرة بالمستكبرين، ووصفت الجماهير الكادحة المؤمنة بالمستضعفين، وهذا يفيد الفريق الأوّل قد وصلوا بشعورهم بالتفوق، وغصب حقوق الناس واستغلالهم...