ثم حكى - سبحانه - ما رد به الخضر على موسى فقال : { قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } .
أى : قال الخضر لموسى إنك يا موسى إذا اتبعتنى ورافقتنى ، فلن تستطيع معى صبرا ، بأى وجه من الوجوه .
قال ابن كثير : " أى : إنك لا تقدر يا موسى أن تصاحبنى ، لما ترى من الأفعال التى تخالف شريعتك ، لأنى على علم من علم الله - تعالى - ما علمك إياه ، وأنت على علم من علم الله - تعالى - ما علمنى إياه ، فكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه ، وأنت لا تقدر على صحبتى " .
ولكن علم الرجل ليس هو العلم البشري الواضح الأسباب القريب النتائج ، إنما هو جانب من العلم اللدني بالغيب أطلعه الله عليه بالقدر الذي أراده ، للحكمة التي أرادها . ومن ثم فلا طاقة لموسى بالصبر على الرجل وتصرفاته ولو كان نبيا رسولا . لأن هذه التصرفات حسب ظاهرها قد تصطدم بالمنطق العقلي ، وبالأحكام الظاهرة ، ولا بد من إدراك ما وراءها من الحكمة المغيبة ؛ وإلا بقيت عجيبة تثير الاستنكار . لذلك يخشى العبد الصالح الذي أوتي العلم اللدني على موسى ألا يصبر على صحبته وتصرفاته :
فعندها { قَالَ } الخضر لموسى : { إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا }أي : أنت لا تقدر أن تصاحبني لما ترى [ منِّي ]{[18321]} من الأفعال التي تخالف شريعتك ؛ لأني على علم من علم الله ، ما علمكه الله ، وأنت على علم من علم الله ، ما علمنيه الله ، فكل منا مكلف بأمور{[18322]} . من الله دون صاحبه ، وأنت لا تقدر على صحبتي .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لَهُ مُوسَىَ هَلْ أَتّبِعُكَ عَلَىَ أَن تُعَلّمَنِ مِمّا عُلّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } .
يقول تعالى ذكره : قال موسى للعالم : هَلْ أَتّبِعُكَ عَلى أنْ تَعَلّمَنِ من العلم الذي علمك الله ما هو رشاد إلى الحقّ ، ودليل على هدى ؟ قالَ إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعَي صَبْرا يقول تعالى ذكره : قال العالم : إنك لن تطيق الصبر معي ، وذلك أني أعمل بباطن علم علّمنيه الله ، ولا علم لك إلا بظاهر من الأمور ، فلا تصبر على ما ترى من الأفعال ، كما ذكرنا من الخبر عن ابن عباس قَبلُ من أنه كان رجلاً يعمل على الغيب قد علم ذلك .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 66]
يقول تعالى ذكره: قال موسى للعالم:"هَلْ أَتّبِعُكَ عَلى أنْ تَعَلّمَنِ" من العلم الذي علمك الله ما هو رشاد إلى الحقّ، ودليل على هدى؟
"قالَ إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعَي صَبْرا "يقول تعالى ذكره: قال العالم: إنك لن تطيق الصبر معي، وذلك أني أعمل بباطن علم علّمنيه الله، ولا علم لك إلا بظاهر من الأمور، فلا تصبر على ما ترى من الأفعال...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إنّكَ لن تستطيعَ مَعِيَ صَبْراً} بما تَرى منّي من الأمور ما يَخرج في الظاهر مَخرجَ المَناكير، أو يقول: إنك نبيٌّ ورسولٌ، والرسولُ إذا رأى مُنكَراً في الظاهر لا يَسَعُ له تركُ الإنكارِ عليه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
سؤال بذلك العطف وجوابٌ بهذا العطف!...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
نفي استطاعة الصبر على وجه التأكيد، كأنهما مما لا يصحّ ولا يستقيم، وعلل ذلك بأنه يتولى أموراً هي في ظاهرها مناكير. والرجل الصالح -فكيف إذا كان نبياً- لا يتمالك أن يشمئز ويمتعض ويجزع إذا رأى ذلك ويأخذ في الإنكار.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
حَكَمَ عَلَيْهِ بِعَادَةِ الْخَلْقِ فِي عَدَمِ الصَّبْرِ عَمَّا يَخْرُجُ من الِاعْتِيَادِ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الْحُكْمِ بِالْعَادَةِ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أتم العبارة عن السؤال، استأنف جوابه له بقوله تعالى: {قال} أي الخضر عليه السلام: {إنك لن تستطيع} يا موسى {معي صبراً} أي هو من العظمة على ما أريد لما يحثك على عدم الصبر من ظاهر الشرع الذي أمرت به، فالتنوين للتعظيم بما تؤذن به تاء الاستفعال، وأكد لما في سؤال موسى عليه السلام من التلطف المؤذن بأنه يصبر عليه ولا يخالفه في شيء أصلاً، ويؤخذ منه أن العالم إن رأى في التغليظ على المتعلم ما يفيده نفعاً وإرشاداً إلى الخير كان عليه ذكره، فإن السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور والنخوة، وذلك يمنعه من التعلم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولكن علم الرجل ليس هو العلم البشري الواضح الأسباب القريب النتائج، إنما هو جانب من العلم اللدني بالغيب أطلعه الله عليه بالقدر الذي أراده، للحكمة التي أرادها. ومن ثم فلا طاقة لموسى بالصبر على الرجل وتصرفاته ولو كان نبيا رسولا. لأن هذه التصرفات حسب ظاهرها قد تصطدم بالمنطق العقلي، وبالأحكام الظاهرة، ولا بد من إدراك ما وراءها من الحكمة المغيبة؛ وإلا بقيت عجيبة تثير الاستنكار. لذلك يخشى العبد الصالح الذي أوتي العلم اللدني على موسى ألا يصبر على صحبته وتصرفاته: (قال: إنك لن تستطيع معي صبرا)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{إنّكَ لن تستطيعَ مَعِيَ صَبْراً}... وهذا تحذيرٌ منه لموسى وتنبيهٌ على ما يَستقبِله منه حتى يُقْدِم على متابعته إن شاء على بصيرةٍ وعلى غير اغترارٍ، وليس المقصود منه الإخبارَ. فمَناطُ التأكيداتِ في جملة {إِنَّكَ لن تستطيعَ مَعِيَ صَبْراً} إنما هو تحقيقُ خطورةِ أعمالِه وغرابتِها في المتعارَف بحيث لا تُتَحَمَّلُ، ولو كان خبراً على أصله لم يُقْبَلْ فيه المُراجَعةُ ولم يُجِبْهُ موسى بقوله: {ستَجِدُنِي إنْ شاءَ اللهُ صابراً}. وفي هذا أصلٌ من أصول التعليم أنْ يُنَبِّه المعلِّمُ المتعلِّمَ بعَوارضِ موضوعاتِ العلومِ المُلَقَّنَةِ لا سيما إذا كانت في معالجتها مَشَقّةٌ...
وزيادةُ {مَعِي} إيماءٌ إلى أنه يَجد من أعماله ما لا يجد مِثلَه مع غيره فانتفاءُ الصَّبرِ على أعماله أَجْدَرُ...
هنا يبدأ العبد الصالح يُملي شروطَ هذه الصُّحبة ويوضح لموسى عليه السلام طبيعةَ علمه ومذهبه،... وكأنه يَلتمِس له عُذْراً على عدم صبره معه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعيَ صَبْراً} لأن تعامُلي مع الأشياء يَختلف عن تعاملك وتعاملِ الآخرين معها، لأني أنظُر إلى أبعاد القضايا في العمق على مستوى حركة الزمن في المستقبل، بينما تَنظُرون إليها من خلال اللحظة الزمنية الحاضرة، والسطحِ الظاهر منها. وبهذا كانت نظرتي إلى الأمور من خلال نهاياتها، أما نظرتكم إليها، فمن خلال بداياتها. وهذا هو سِرُّ المسافةِ بين النظرة الشاملة الكُلّيّة للحياة، وبين النظرة المحدودة الجزئية لها من خلال ما تُمَثِّله المسافةُ بين البداية والنهاية. ولهذا فمن الصعب أن يَصبِر الفريقُ الذي يَنظر إلى القضايا من مسافةٍ قريبةٍ على الفريق الذي يَنظر إليها من مسافةٍ بعيدةٍ...