قوله تعالى : { لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين } لموسى ، وقيل : إنما قالوا ذلك على طريق الاستهزاء ، وأرادوا بالسحرة موسى وهارون وقومهما . { فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجر إن كنا نحن الغالبين* ؟ قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين* قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون* فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إن لنحن الغالبون* فألقى موسى عصاه* فإذا هي تلقف ما يأفكون* فألقي السحرة ساجدين* قالوا آمنا برب العالمين* رب موسى وهارون* قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون* لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين }
وهنا يسدل الستار على هذا المشهد ليرفع على مشهد السحرة يحشدون ، والناس يجمعون للمباراة ، وتبث فيهم الحماسة للسحرة ومن خلفهم من أصحاب السلطان ؛ وتهيأ أرض المباراة بين الحق والباطل ، أو بين الإيمان والطغيان .
( فجمع السحرة لميقات يوم معلوم . وقيل للناس : هل أنتم مجتمعون ، لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين ? ) . . وتظهر من التعبير حركة الإهاجه والتحميس للجماهير : ( هل أنتم مجتمعون ، لعلنا نتبع السحرة )هل لكم في التجمع وعدم التخلف عن الموعد ، ليترقب فوز السحرة وغلبتهم على موسى الإسرائيلي ! والجماهير دائما تتجمع لمثل هذه الأمور ، دون أن تفطن إلى أن حكامها الطغاة يلهون بها ويعبثون ، ويشغلونها بهذه المباريات والاحتفالات والتجمعات ، ليلهوها عما تعاني من ظلم وكبت وبؤس . وهكذا تجمع المصريون ليشهدوا المباراة بين السحرة وموسى عليه السلام !
ذكر [ الله ]{[21712]} تعالى هذه المناظرة الفعلية بين موسى والقبط في " سورة الأعراف " وفي " سورة طه " وفي هذه السورة : وذلك أن القبط أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، فأبى{[21713]} الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون . وهذا شأن الكفر والإيمان ، ما تواجها وتقابلا إلا غلبه الإيمان ، { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } [ الأنبياء : 18 ] ، { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } [ الإسراء : 81 ] ، ولهذا لما جاء السحرة ، وقد جمعوهم من أقاليم بلاد مصر ، وكانوا إذ ذاك أسحر الناس وأصنعهم وأشدهم تخييلا في ذلك ، وكان السحرة جمعًا كثيرًا ، وجمًا غفيرًا ، قيل : كانوا اثني عشر ألفًا . وقيل : خمسة عشر ألفًا . وقيل : سبعة عشر ألفًا وقيل : تسعة عشر ألفًا . وقيل : بضعة وثلاثين ألفًا . وقيل : ثمانين ألفًا . وقيل غير ذلك ، والله أعلم بعدتهم .
قال ابن إسحاق : وكان أمرهم راجعًا إلى أربعة منهم وهم رؤساؤهم : وهم : ساتور وعازور{[21714]} وحطحط{[21715]} ويصقى .
واجتهد{[21716]} الناس في الاجتماع ذلك اليوم ، وقال قائلهم : { لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ] }{[21717]} ، ولم يقولوا : نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى ، بل الرعية على دين ملكهم . { فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ } أي : إلى مجلس فرعون وقد ضرب له وطاقا ، وجمع حشمه وخدمه [ وأمراءه ]{[21718]} ووزراءه ورؤساء دولته وجنود مملكته ، فقام السحرة بين يدي فرعون{[21719]} يطلبون منه الإحسان إليهم والتقرب إليه إن غلبوا ، أي : هذا الذي جمعتنا من أجله ، فقالوا : { أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } أي : وأخص مما تطلبون أجعلكم من المقربين عندي وجلسائي . فعادوا إلى مقام المناظرة { قَالُوا{[21720]} يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا } [ طه : 65 ، 66 ] ، وقد اختصر هذا هاهنا فقال لهم موسى : { أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ } ، وهذا كما يقوله الجهلة من العوام إذا فعلوا شيئا : هذا بثواب فلان . وقد ذكر الله في سورة الأعراف : أنهم { سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [ الأعراف : 116 ] ، وقال في " سورة طه " : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [ طه : 66 ، 69 ] .
وقال هاهنا : { فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } أي : تختطفه{[21721]} وتجمعه من كل بقعة وتبتلعه فلم تدع منه شيئا .
قال تعالى : { فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ . وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ . قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } [ الأعراف : 118 - 122 ] وكان هذا أمرا عظيما جدًا ، وبرهانًا قاطعًا للعذر وحجة دامغة ، وذلك أن الذين استنصر بهم وطلب منهم أن يغلبوا ، قد غلبوا وخضعوا وآمنوا بموسى في الساعة الراهنة ، وسجدوا لله رب العالمين ، الذي أرسل موسى وهارون بالحق وبالمعجزة الباهرة ، فَغُلِبَ فرعون غَلبًا لم يشاهد العالم مثله ، وكان وقحًا جريئًا عليه لعنة الله ، فعدل إلى المكابرة والعناد ودعوى الباطل ، فشرع يتهددهم ويتوعدهم ، ويقول : { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } [ طه : 71 ] ، وقال : { إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 123 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَجُمِعَ السّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مّعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنّاسِ هَلْ أَنتُمْ مّجْتَمِعُونَ * لَعَلّنَا نَتّبِعُ السّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ } .
يقول تعالى ذكره : فجمع الحاشرون الذين بعثهم فرعون بحشر السحرة لِميقاتِ يَوْم مَعْلُومٍ يقول : لوقت واعد فرعون لموسى الاجتماع معه فيه من يوم معلوم ، وذلك يوم الزّينة وَأَنْ يُحْشرَ النّاسُ ضُحَى وقيل للناس : هل أنتم مجتمعون لتنظروا إلى ما يفعل الفريقان ، ولمن تكون الغلبة ، لموسى أو للسحرة ؟ فلعلنا نتبع السحرة . ومعنى لعلّ هنا : كي . يقول : كي نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين موسى . وإنما قلت ذلك معناها ، لأن قوم فرعون كانوا على دين فرعون ، فغير معقول أن يقول من كان على دين : أنظر إلى حجة من هو على خلافي لعلي أتبع ديني ، وإنما يقال : أنظر إليها كي أزدادَ بصيرة بديني ، فأقيم عليه . وكذلك قال قوم فرعون ، فإياها عنوا بقيلهم : لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين . وقيل : إن اجتماعهم للميقات الذي اتعد للاجتماع فيه فرعون وموسى كان بالإسكندرية . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَقِيلَ للنّاسِ هَلْ أنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ قال : كانوا بالإسكندرية ، قال : ويقال : بلغ ذنب الحية من وراء البحيرة يومئذ ، قال : وهربوا وأسلموا فرعون وهمت به ، فقال : فخذها يا موسى ، قال : فكان فرعون مما يلي الناس منه أنه كان لا يضع على الأرض شيئا ، قال : فأحدث يومئذ تحته ، قال : وكان إرساله الحية في القبة الحمراء .
رجَوا اتّباع السحرة ، أي اتباع ما يؤيده سحر السحرة وهو إبطال دين ما جاء به موسى ، فكان قولهم { لعلنا نتّبع السحرة } كناية عن رجاء تأييدهم في إنكار رسالة موسى فلا يتبعونه . وليس المقصود أن يصير السحرة أيمة لهم لأن فرعون هو المتّبع . وقد جيء في شرط { إن كانوا هم الغالبين } بحرف { إن } لأنها أصل أدوَات الشرط ولم يكن لهم شك في أن السحرة غالبون . وهذا شأن المغرورين بهواهم ، العُمي عن النظر في تقلبات الأحوال أنهم لا يفرضون من الاحتمالات إلا ما يوافق هواهم ولا يأخذون العُدة لاحتمال نقيضه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لعلنا نتبع السحرة} على أمرهم {إن كانوا هم الغالبين}، لموسى وأخيه، واجتمعوا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقيل للناس: هل أنتم مجتمعون لتنظروا إلى ما يفعل الفريقان، ولمن تكون الغلبة، لموسى أو للسحرة؟ فلعلنا نتبع السحرة. ومعنى لعلّ هنا: كي. يقول: كي نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين موسى. وإنما قلت ذلك معناها، لأن قوم فرعون كانوا على دين فرعون، فغير معقول أن يقول من كان على دين: أنظر إلى حجة من هو على خلافي لعلي أتبع ديني، وإنما يقال: أنظر إليها كي أزدادَ بصيرة بديني، فأقيم عليه. وكذلك قال قوم فرعون، فإياها عنوا بقيلهم: لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
[إن كانوا هم الغالبين] فالغلبة: الاستعلاء بالقوة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة} أي في دينهم إن غلبوا موسى، ولا نتبع موسى في دينه. وليس غرضهم باتباع السحرة، وإنما الغرض الكلي: أن لا يتبعوا موسى، فساقوا الكلام مساق الكناية؛ لأنهم إذا اتبعوهم لم يكونوا متبعين لموسى عليه السلام..
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله {لعلنا نتبع السحرة} ليس معناه نتبعهم في السحر إنما أراد نتبعهم في نصرة ديننا وملتنا والإبطال على معارضتنا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولم يسمح بذكر جانب موسى عليه السلام فقال: {لعلنا نتبع السحرة} لأن من امتثل أمر الملك كان حاله حال من يرجى منه اتباع حزبه {إن كانوا هم} أي خاصة {الغالبين} أي غلبة لا يشك في أنها ناشئة عن مكنة ونعرض عن أمر موسى الذي نازع الملك في أمره، وهذا مرادهم في الحقيقة، وعبر بهذا كناية عنه لأنه أدل على عظمة الملك، وعبر بأداة الشك إظهاراً للإنصاف، واستجلاباً للناس، مع تقديرهم لقطعهم بظفر السحرة. لما رسخ في أذهانهم في الأزمنة المتطاولة من الضلال الذي لا غفلة لإبليس عن تزيينه مع أن تغيير المألوف أمر في غاية العسر.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
رجَوا اتّباع السحرة، أي اتباع ما يؤيده سحر السحرة وهو إبطال دين ما جاء به موسى، فكان قولهم {لعلنا نتّبع السحرة} كناية عن رجاء تأييدهم في إنكار رسالة موسى فلا يتبعونه. وليس المقصود أن يصير السحرة أيمة لهم لأن فرعون هو المتّبع. وقد جيء في شرط {إن كانوا هم الغالبين} بحرف {إن} لأنها أصل أدوَات الشرط ولم يكن لهم شك في أن السحرة غالبون. وهذا شأن المغرورين بهواهم، العُمي عن النظر في تقلبات الأحوال أنهم لا يفرضون من الاحتمالات إلا ما يوافق هواهم ولا يأخذون العُدة لاحتمال نقيضه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وواضح أنّ وجود المتفرجين كلّما كان أكثر شدّ من أزر الطرف المبارز، وكان مدعاةً لأن يبذل أقصى جهده، كما أنه يزيد من معنوياته وعندما ينتصر الطرف المبارز يستطيع أن يثير الصخب والضجيج إلى درجةً يتوارى بها خصمه، كما أن وجود المتفرجين الموالين بإمكانه أن يضعف من روحيّة الطرف المواجه «الخصم» فلا يدعه ينتصر! أجل إن اتباع فرعون بهذه الآمال كانوا يرغبون أن يحضر الناس، كما أنّ موسى (عليه السلام) كان يطلب من الله أن يحضر مثل هذا الجمع الحاشد الهائل! ليبيّن هدفه بأحسنِ وجه..