وقوله : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى . وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } قال سعيد بن جبير ، والثوري أي بلّغ جميع ما أمر به .
وقال ابن عباس : { وَفَّى } لله بالبلاغ . وقال سعيد بن جُبَير : { وَفَّى } ما أمر به . وقال قتادة : { وَفَّى } طاعة الله ، وأدى رسالته الى خلقه . وهذا القول هو اختيار ابن جرير ، وهو يشمل الذي قبله ، ويشهد له قوله تعالى : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } [ البقرة : 124 ] فقام بجميع الأوامر ، وترك جميع النواهي ، وبلغ الرسالة على التمام والكمال ، فاستحق بهذا أن يكون للناس إماما يُقتَدى به في جميع أحواله وأفعاله وأقواله ، قال الله تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 123 ] .
وقوله تعالى : { أعنده علم الغيب فهو يرى } معناه : أعلم من الغيب أن من تحمل ذنوب آخر فإن المتحمل عنه ينتفع بذلك ، فهو لهذا الذي علمه يرى الحق وهو له فيه بصيرة أم هو جاهل لم ينبأ أي يعلم ما في صحف موسى وهي التوراة وفي صحف إبراهيم وهي كتب نزلت عليه من السماء من أنه لا تزر وازرة وزر أخرى ، أي لا تحمل حاملة حمل أخرى ، وإنما يؤخذ كل واحد بذنوب نفسه ، أي فلما كان جاهلاً بهذا وقع في عطاء ماله للذي قال له : إني أتحمل عنك درك الآخرة{[10719]} .
{ أم } لإِضراب الانتقال إلى متعجَّب منه وإنكارٍ عليه آخَر وهو جهله بما عليه أن يعلمه الذين يخشون الله تعالى من عِلم ما جاء على ألسنة الرسل الأولين فإن كان هو لا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فهلاّ تطلب ما أخبرت به رسل من قبلُ ، طالما ذكَر هو وقومه أسماءهم وشرائعهم في الجملة ، وطالما سأل هو وقومه أهل الكتاب عن أخبار موسى ، فهلاّ سأل عمّا جاء عنهم في هذا الغرض الذي يسعى إليه وهو طلب النجاة من عذاب الله فينبئه العالمون ، فإن مآثر شريعة إبراهيم مأثور بعضها عند العرب ، وشريعة موسى معلومة عند اليهود . فالاستفهام المقدر بعد { أم } إنكار مثل الاستفهام المذكور قبلها في قوله : { أعنده علم الغيب } والتقدير : بل ألم ينبأ بما في صحف موسى الخ .
و { صحف موسى } : هي التوراة ، وصحف { إبراهيم } : صحفٌ سُجِّل فيها ما أوحَى الله إليه ، وهي المذكورة في سورة الأعلى ( 18 ، 19 ) { إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى } روى ابن حبّان والحاكم عن أبي ذر أنه سأل النبي عن الكتب التي أنزلت على الأنبياء فذكر له منها عشرة صحائف أنزلت على إبراهيم ، أي أنزل عليه ما هو مكتوب فيها .
وإنما خص هذه الصحف بالذكر لأن العرب يعرفون إبراهيم وشريعته ويسمونها الحنيفية وربما ادّعى بعضهم أنه على إثارة منها مثل : زيد بن عَمرو بن نُفيل .
وأما صحف موسى فهي مشتهرة عند أهل الكتاب ، والعربُ يخالطون اليهود في خيبر وقريظة والنضير وتَيما ، ويخالطون نصارى نجران ، وقد قال الله تعالى : { فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثلَ ما أُوتي موسى } [ القصص : 48 ] .
وتقديم { صحف موسى } لأنها اشتهرت بسعة ما فيها من الهدى والشريعة ، وأما صحف إبراهيم فكان المأثور منها أشياء قليلة . وقدّرت بعشر صحف ، أي مقدار عشر ورقات بالخط القديم ، تسَع الورقة قُرابة أربع آيات من آي القرآن بحيث يكون مجموع ملفي صحف إبراهيم مقدار أربعين أية .
وإنما قدم في سورة الأعلى صحف إبراهيم على صحف موسى مراعاةً لوقوعهما بَدلاً من الصحف الأولى فقدم في الذكر أقدمهما .
وعندي أن تأخير ذكر صحف إبراهيم ليقع ما بعدها هنا جامعاً لما احتوت عليه صحف إبراهيم فتكون صحف إبراهيم هي الكلمات التي ابتلَى الله بها إبراهيم المذكورةُ في قوله في سورة البقرة { 124 } : { وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن أي بلغهن إلى قومه ومن آمن به ، ويكون قوله هنا الذي وفى } في معنى قوله : { فأتمهن } في سورة البقرة { 124 } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أم لم ينبأ} يعني يحدث {بما في صحف موسى} يعني التوراة كتاب موسى...
قال الشافعي: ولله كتب نزلت قبل نزول القرآن، المعروف منها عند العامة التوراة والإنجيل، وقد أخبر الله أنه أنزل غيرها فقال: {أَمْ لَمْ يُنَبَّا بِمَا فِى صُحُفِ مُوسى وَإِبْرَاهِيمَ اَلذِى وَفّى} وليس تعرف تلاوة كتب إبراهيم. وذكر زبور داود فقال: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ اِلاَوَّلِينَ}. (اختلاف الحديث: 509-510. ون مختصر المزني: 277. وأحكام الشافعي: 1/54. والأم: 4/173 و 4/241.)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"أمْ لَمْ يُنَبّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى "يقول تعالى ذكره: أم لم يُخَبّرْ هذا المضمون له، أن يتحمل عنه عذاب الله في الآخرة، بالذي في صحف موسى بن عمران عليه السلام.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أم لم يُنبّأ بما في صُحف موسى} {وإبراهيم الذي وفّى} كأن هذا مقطوع من الأول؛ كان أولئك الكفرة يقولون لأتباعهم: إنا نتحمّل الظلم منكم والوِزر فلا تأتوا محمدا، ولا تصدّقوه كقوله تعالى حكاية عنهم {اتّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} فقال: عند ذلك {أم لم ينبّأ بما في صحف موسى} {وإبراهيم الذي وفّى} {ألاّ تزِرُ وازرة وِزرَ أخرى} أي قد بيّنا في صحفهما {ألاّ تزِرُ وازرة وِزر أخرى} وقيل: إنما سمّي وفِيًّا لأنه بلّغ ما أُمر بتبليغه...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والصحف جمع صحيفة والمراد -ههنا- مكتوب الحكمة، لأنها كتب الله.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أم لم يُنَبَأْ هذا الكافرُ بما في صحف موسى، وصحف إبراهيم الذي وفّى؛ أي أتمَّ ما طُولِبَ به في نَفْسِه ومالِه ووَلدِه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وفى} قرىء مخففاً ومشدّداً، والتشديد مبالغة في الوفاء. أو بمعنى: وفر وأتم، كقوله تعالى: {فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] وإطلاقه ليتناول كل وفاء وتوفية، من ذلك: تبليغه الرسالة، واستقلاله بأعباء النبوّة، والصبر على ذبح ولده وعلى نار نمروذ، وقيامه بأضيافه وخدمته إياهم بنفسه... وعن الحسن: ما أمره الله بشيء إلا وفى به.
وقوله تعالى: {أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى} حال أخرى مضادة للأولى يعذر فيها المتولي وهو الجهل المطلق، فإن من علم الشيء علما تاما لا يؤمر بتعلمه، والذي جهله جهلا مطلقا وهو الغافل على الإطلاق كالنائم أيضا لا يؤمر فقال: هذا المتولي هل علم الكل فجاز له التولي أو لم يسمع شيئا وما بلغه دعوة أصلا فيعذر، ولا واحد من الأمرين بكائن فهو في التولي غير معذور، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى: {وإبراهيم الذي وفى} يحتمل وجهين: (أحدهما) أن يكون المراد ما فيها لا بصفة كونه فيها، فكأنه تعالى يقول: أم لم ينبأ بالتوحيد والحشر وغير ذلك، وهذه أمور مذكورة في صحف موسى... وعلى هذا فالكلام مع الكل لأن المشرك وأهل الكتاب نبأهم النبي صلى الله عليه وسلم بما في صحف موسى. (ثانيهما) أن المراد بما في الصحف مع كونه فيها... وعلى هذا فالكلام مع أهل الكتاب لأنهم الذين نبئوا به.
المسألة الثانية: صحف موسى وإبراهيم، هل جمعها لكونها صحفا كثيرة أو لكونها مضافة إلى اثنين كما قال تعالى: {فقد صغت قلوبكما}؟ الظاهر أنها كثيرة، قال الله تعالى: {وأخذ الألواح} وقال تعالى: {وألقى الألواح} وكل لوح صحيفة.
المسألة الثالثة: ما المراد بالذي فيها؟ نقول قوله تعالى: {ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} وما بعده من الأمور المذكورة على قراءة من قرأ أن بالفتح وعلى قراءة من يكسر ويقول: {وأن إلى ربك المنتهى}.
ففيه وجوه أحدها: هو ما ذكر بقوله: {ألا تزر وازرة وزر أخرى} وهو الظاهر، وإنما احتمل غيره، لأن صحف موسى وإبراهيم ليس فيها هذا فقط، وليس هذا معظم المقصود بخلاف قراءة الفتح، فإن فيها تكون جميع الأصول على ما بين.
(ثانيها) هو أن الآخرة خير من الأولى يدل عليه قوله تعالى: {إن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى}.
(ثالثها) أصول الدين كلها مذكورة في الكتب بأسرها، ولم يخل الله كتابا عنها، ولهذا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فبهداهم اقتده} وليس المراد في الفروع، لأن فروع دينه مغايرة لفروع دينهم من غير شك.
المسألة الرابعة: قدم موسى هاهنا ولم يقل كما قال في {سبح اسم ربك الأعلى} فهل فيه فائدة؟ نقول: مثل هذا في كلام الفصحاء لا يطلب له فائدة، بل التقديم والتأخير سواء في كلامهم فيصح أن يقتصر على هذا الجواب، ويمكن أن يقال: إن الذكر هناك لمجرد الإخبار والإنذار وهاهنا المقصود بيان انتفاء الأعذار، فذكر هناك على ترتيب الوجود صحف إبراهيم قبل صحف موسى في الإنزال، وأما هاهنا فقد قلنا إن الكلام مع أهل الكتاب وهم اليهود فقدم كتابهم، وإن قلنا الخطاب عام فصحف موسى عليه السلام كانت كثيرة الوجود، فكأنه قيل لهم انظروا فيها تعلموا أن الرسالة حق، وأرسل من قبل موسى رسل والتوحيد صدق والحشر واقع فلما كانت صحف موسى عند اليهود كثيرة الوجود قدمها، وأما صحف إبراهيم فكانت بعيدة وكانت المواعظ التي فيها غير مشهورة فيما بينهم كصحف موسى فأخر ذكرها.
المسألة الخامسة: كثيرا ما ذكر الله موسى فأخر ذكره عليه السلام لأنه كان مبتلى في أكثر الأمر بمن حواليه وهم كانوا مشركين ومتهودين والمشركون كانوا يعظمون إبراهيم عليه السلام لكونه أباهم.
وأما قوله تعالى: {وفى} ففيه وجهان؛
(أحدهما) أنه الوفاء الذي يذكر في العهود، وعلى هذا فالتشديد للمبالغة... وهو ظاهر لأنه وفى بالنذر وأضجع ابنه للذبح، وورد في حقه: {قد صدقت الرؤيا} وقال تعالى: {إن هذا لهو البلاء المبين}.
(وثانيهما) أنه من التوفية التي من الوفاء وهو التمام والتوفية الإتمام يقال وفاه أي أعطاه تاما، وعلى هذا فهو من قوله: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} وقيل: {وفى} أي أعطى حقوق الله في بدنه، وعلى هذا فهو على ضد من قال تعالى فيه: {وأعطى قليلا وأكدى} مدح إبراهيم ولم يصف موسى عليه السلام، نقول: أما بيان توفيته ففيه لطيفة وهي أنه لم يعهد عهدا إلا وفى به، وقال لأبيه: {سأستغفر لك ربي} فاستغفر ووفى بالعهد ولم يغفر الله له، فعلم {أن ليس للإنسان إلا ما سعى} وأن وزره لا تزره نفس أخرى، وأما مدح إبراهيم عليه السلام فلأنه كان متفقا عليه بين اليهود والمشركين والمسلمين ولم ينكر أحد كونه وفيا، وموفيا، وربما كان المشركون يتوقفون في وصف موسى عليه السلام.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أم لم ينبأ} أي يخبر إخباراً عظيماً متتابعاً {بما في صحف موسى} أي التوراة المنسوبة إليه بإنزالها عليه وكذا ما يتبعها من أسفار الأنبياء الذين جاؤوا بعده بتقريرها...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وإنما ذكر ما جاء في شريعتي هذين النبيين فحسب، لأن المشركين كانوا يدعون أنهم على شريعة أبيهم إبراهيم، وأهل الكتاب كانوا يدعون أنهم متبعون ما في التوراة وصحفها قريبة العهد منهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذا الدين قديم، موصولة أوائله وأواخره، ثابتة أصوله وقواعده، يصدق بعضه بعضا على توالي الرسالات والرسل، وتباعد المكان والزمان. فهو في صحف موسى.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالاستفهام المقدر بعد {أم} إنكار مثل الاستفهام المذكور قبلها في قوله: {أعنده علم الغيب} والتقدير: بل ألم ينبأ بما في صحف موسى الخ. و {صحف موسى}: هي التوراة، وصحف {إبراهيم}: صحفٌ سُجِّل فيها ما أوحَى الله إليه، وهي المذكورة في سورة الأعلى (18، 19) {إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى}.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ثم استعرضت الآيات الكريمة جملة من التعليمات الإلهية، والعقائد الدينية الإسلامية، التي احتوت عليها صحف إبراهيم وموسى، مما يعتبر تراثا دينيا خالدا مشتركا بين جميع الأنبياء والمرسلين، وكافة المؤمنين، وذلك قوله تعالى: {أم لم ينبأ بما في صحف موسى36 وإبراهيم الذي وفى 37 ألا تزر وازرة وزر أخرى38...}.