والآن بعد الجولة الأولى في عالم الآخرة ، والجولة الثانية في مشاهد الكون المعروضة ، يلتفت إلى الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يوجهه إلى حدود واجبه وطبيعة وظيفته ، ويلمس قلوبهم اللمسة الأخيرة الموقظة :
فذكر إنما أنت مذكر . لست عليهم بمسيطر . إلا من تولى وكفر . فيعذبه الله العذاب الأكبر . إن إلينا إيابهم . ثم إن علينا حسابهم . .
فذكر بها وذاك . ذكرهم بالآخرة وما فيها . وذكرهم بالكون وما فيه . إنما أنت مذكر . هذه وظيفتك على وجه التحديد . وهذا دورك في هذه الدعوة ، ليس لك ولا عليك شيء وراءه . عليك أن تذكر . فإنك ميسر لهذا ومكلف إياه .
وقوله : { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ . لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } أي : فذكر - يا محمد - الناس بما أرسلت به إليهم ، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ؛ ولهذا قال : { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما : لست عليهم بجبار .
وقال ابن زيد : لست بالذي تكرههم على الإيمان .
قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله عز وجل " . ثم قرأ : { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ }
وهكذا رواه مسلم في كتاب " الإيمان " ، والترمذي والنسائي في كتابي{[30006]} التفسير " من سننيهما ، من حديث سفيان بن سعيد الثوري ، به بهذه الزيادة{[30007]} وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من رواية أبي هريرة ، بدون ذكر هذه الآية{[30008]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَذَكّرْ إِنّمَآ أَنتَ مُذَكّرٌ * لّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ * إِلاّ مَن تَوَلّىَ وَكَفَرَ * فَيْعَذّبُهُ اللّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ * إِنّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ * ثُمّ إِنّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فَذَكّرْ يا محمد عبادي بآياتي ، وعظهم بحججي ، وبلّغهم رسالتي إنّمَا أنْتَ مُذَكّرٌ يقول : إنما أرسلتك إليهم مذكرا ، لتذكرهم نعمتي عندهم ، وتعرّفهم اللازم لهم ، وتعظهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ فذكر } أهل مكة يا محمد { إنما أنت مذكر } كالذين من قبلك...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فَذَكّرْ يا محمد عبادي بآياتي ، وعظهم بحججي ، وبلّغهم رسالتي "إنّمَا أنْتَ مُذَكّرٌ" يقول : إنما أرسلتك إليهم مذكرا ، لتذكرهم نعمتي عندهم ، وتعرّفهم اللازم لهم ، وتعظهم . ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ففي هاتين الآيتين والله أعلم ، أمر من الله تعالى لرسوله عليه السلام ألا يجازيهم بصنيعهم إذا استقبلوه بما يكره من أذى يوجد منهم واستخفاف يجيء منهم ، فيقول : ذكر بالله تعالى ، وذكرهم عظم نعمه ، وذكّرهم كيف هلك مكذبو الرسل ؟ وكيف نجا من صدقهم ؛ وعظم أمرهم ؟ ولا تجازهم بصنيعهم ، وكل ذلك إلى الله تعالى . ...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
( فذكر ) يا محمد ( إنما أنت مذكر ) فالتذكير: التعريف للذكر بالبيان الذي يقع به الفهم ، والنفع بالتذكير عظيم ، لأنه طريق للعلم بالأمور التي نحتاج إليها وملين القلب للعمل بها ، ومذكر يعني بنعم الله تعالى عندهم وما يجب عليهم في مقابلتها من الشكر والعبادة، فقد أوضح الله تعالى طريق الحجج في الدين وأكده غاية التأكيد بما لا يسع فيه التقليد بقوله ( إنما أنت مذكر ) وقوله ( وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين ) ...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
في التفسير : أنه عظة للمؤمن ، وحجة على الكافر ، ويقال : ذكر أي : اذكر دلائل توحيد الله تعالى ، وما أنعم عليه من النعمة . ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي : لا ينظرون ، فذكرهم ولا تلح عليهم ، ولا يهمنك أنهم لا ينظرون ولا يذكرون { إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ } ...
{ فذكر إنما أنت مذكر } وتذكير الرسول إنما يكون بذكر هذه الأدلة وأمثالها والبعث على النظر فيها والتحذير من ترك تلك ، وذلك بعث منه تعالى للرسول على التذكير والصبر على كل عارض معه ، وبيان أنه إنما بعث لذلك دون غيره ، فلهذا قال : { إنما أنت مذكر } .
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ فذكر } كل من يرجى تذكره وانتفاعه بالتذكير ...{ إنما أنت مذكر } أي لا مقاتل قاهر قاسر لهم على التذكر والرجوع ، فلا عليك إن لم ينظروا ولم يتذكروا لأنه ما عليك إلا البلاغ ، ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذكرهم بالآخرة وما فيها . وذكرهم بالكون وما فيه . إنما أنت مذكر . هذه وظيفتك على وجه التحديد . وهذا دورك في هذه الدعوة ، ليس لك ولا عليك شيء وراءه . عليك أن تذكر . فإنك ميسر لهذا ومكلف إياه . ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الفاء فصيحةُ تفريع على محصَّل ما سبق من أول السورة الذي هو التذكير بالغاشية وما اتصل به من ذكر إعراضهم وإنذارهم ، رتب على ذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدوام على تذكيرهم وأنه لا يؤيسه إصرارهم على الإعراض وعدم ادكارهم بما ألقى إليهم من المواعظ ، وتثبيته بأنه لا تبعة عليه من عدم إصغائهم إذ لم يُبعث مُلجئاً لهم على الإِيمان .... فالأمر مستعمل في طلب الاستمرارِ والدوام .... ومفعول « ذَكِّرْ » محذوف هو ضمير يدل عليه قوله بعده { لست عليهم بمصيطر } . ... وجملة { إنما أنت مذكر } تعليل للأمر بالدوام على التذكير مع عدم إصغائهم لأن { إنما } مركبة من ( أنَّ ) و ( ما ) وشأنُ ( إنَّ ) إذا وردت بعد جملة أن تفيد التعليل وتغني غَناء فاء التسبب ، واتصال ( ما ) الكافة بها لا يخرجها عن مهيعها . ... والقصر المستفاد ب { إنما } قصر إضافي ، أي أنت مذكر لست وكيلاً على تحصيل تذكرهم فلا تتحرج من عدم تذكرهم فأنت غير مقصر في تذكيرهم وهذا تطمين لنفسه الزكية ....
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وختمت سورة " الغاشية " بخاتمة تريح ضمير الرسول عليه السلام ، وتحدد مهمته في الاقتصار على تبليغ الرسالة إلى الخلق ، وإقامة الحجة عليهم ، حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، ... وفي ذلك تخفيف عن الرسول ومواساة له من ربه ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحزن حزنا شديدا عندما يرى الضالين مصرين على ضلالهم ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في ( سورة الشعراء : 3 ) : { لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين } . ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
( فذكّر إنّما أنت مذكر ) . . ( لست عليهم بمصيطر ) . نعم ، فخلق السماء والأرض والجبال والحيوانات ينطق بعدم عبثية هذا الوجود ، وأنّ خلق الإنسان إنّما هو لهدف . . . فذكّرهم بهدفية الخلق ، وبيّن لهم طريق السلوك الربّاني ، وكن رائدهم وقدوتهم في مسيرة التكامل البشري . وليس باستطاعتك إجبارهم ، وإن حصل ذلك فلا فائدة منه ، لأنّ شوط الكمال إنّما يقطع بالإرادة والاختيار ، وليس ثمّة من معنى للتكامل الإجباري . وقيل : إنّ هذا الأمر الإلهي نزل قبل تشريع «الجهاد » ، ثمّ نسخ به ! وما أعظم هذا الاشتباه ! ! فرسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) مارس عملية التذكير والتبليغ منذ الوهلة الاُولى للبعثة الشريفة واستمر على هذا النهج حتى آخر لحظة من حياته الشريفة المباركة ، ولم تتوقف العملية عن الممارسة من بعده ... حتى وصلت ليومنا وسوف لن تتوقف بإذن اللّه تعالى ، فأيّ نسخ هذا الذي يتكلمون عنه ! ثمّ إنّ عدم إجبار النّاس على الإيمان يعتبر من ثوابت الشريعة الإسلامية السمحاء ، أمّا هدف الجهاد فيتعلق بمحاربة الطغاة الذين يقفون حجر عثرة في طريق دعاة الحقّ وطالبيه ...