وقوله : إنّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يقول : إنكم أيها الناس لفي قول مختلف في هذا القرآن ، فمن مصدّق به ومكذّب . كما :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة إنّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ قال : مصدّق بهذا القرآن ومكذّب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ قال : يتخرّصون يقولون : هذا سحر ، ويقولون : هذا أساطير ، فبأيّ قولهم يؤخذ ، قتل الخرّاصون هذا الرجل ، لا بدّ له من أن يكون فيه أحد هؤلاء ، فما لكم لا تأخذون أحد هؤلاء ، وقد رميتموه بأقاويل شتى ، فبأيّ هذا القول تأخذون ، هذا الرجل الاَن فهو قول مختلف . قال : فذكر أنه تخرّص منهم ليس لهم بذلك علم قالوا : فما منع هذا القرآن أن ينزل باللسان الذي نزلت به الكتب من قبلك ، فقال الله : أعجميّ وعربيّ ؟ لو جعلنا هذا القرآن أعجميا لقلتم نحن عرب وهذا القرآن أأعجميّ ، فكيف يجتمعان .
وقوله تعالى : { إنكم لفي قول مختلف } ، يحتمل أن يكون خطاباً لجميع الناس مؤمن وكافر ، أي اختلفتم بأن قال فريق منكم : آمنا بمحمد وكتابه ، وقال فريق آخر : كفرنا ، وهذا قول قتادة . ويحتمل أن يكون خطاباً للكفرة فقط ، أي : أنتم في جنس من الأقوال مختلف في نفسه ، قوم منكم يقولون : ساحر ، وقوم : كاهن ، وقوم : شاعر ، وقوم : مجنون إلى غير ذلك ، وهذا قول ابن زيد والضمير في : { عنه } قال الحسن وقتادة : هو عائد على محمد أو كتابه وشرعه .
والقول المختلف : المتناقض الذي يخالف بعضه بعضاً فيقتضي بعضه إبطال بعض الذي هم فيه هو جميع أقوالهم والقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك أقوالهم في دين الإشراك فإنها مختلفة مضطربة متناقضة فقالوا القرآنُ : سِحْرٌ وشعر ، وقالوا { أساطير الأولين اكتتبها } [ الفرقان : 5 ] ، وقالوا { إنْ هذا إلا اختلاق } [ ص : 7 ] ، وقالوا { لو نشاء لقلنا مثل هذا } [ الأنفال : 31 ] وقالوا : مرة { في آذاننا وَقْر ومن بيننا وبينك حجاب } [ فصلت : 5 ] وغير ذلك ، وقالوا : وحي الشياطين .
وقالوا في الرسول صلى الله عليه وسلم أقوالاً : شاعر ، ساحر ، مجنون ، كاهن ، يعلمه بشر ، بعد أن كانوا يلقبونه الأمين .
وقالوا في أصول شركهم بتعدد الآلهة مع اعترافهم بأن الله خالق كل شيء وقالوا : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله } [ الزمر : 3 ] ، { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها } [ الأعراف : 28 ] .
و ( في ) للظرفية المجازية وهي شدة الملابسة الشبيهة بملابسة الظرف للمظروف مثل { ويُمدهم في طغيانهم يعمهون } [ البقرة : 15 ] .
والمقصود بقوله : { إنكم لفي قول مختلف } الكناية عن لازم الاختلاف وهو التردد في الاعتقاد ، ويلزمُه بطلان قولهم وذلك مصبّ التأكيد بالقسم وحرف ( إن ) واللام .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إنكم} يا أهل مكة {لفي قول} يعني القرآن {مختلف} شك يؤمن به بعضكم ويكفر به بعضكم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"إنّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ "يقول: إنكم أيها الناس لفي قول مختلف في هذا القرآن، فمن مصدّق به ومكذّب... قال ابن زيد، في قوله: "إنّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ" قال: يتخرّصون، يقولون: هذا سحر، ويقولون: هذا أساطير، فبأيّ قولهم يؤخذ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إنكم لفي قول مختلف} في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي القرآن ما لو كان ذلك القول منكم عن علم ومعرفة لم يخرج مختلفا متناقضا.
أحدها: أنهم قالوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه مجنون، وإنه ساحر، وإنه شاعر، وإنه مُفترٍ. وهذا مختلف متناقض، لأن الساحر، هو الذي يبلغ في معرفة الأشياء غايتها، وكذا الشاعر، ولا يحتمل أن يبلُغ المجنون ذلك المبلغ بحال، فتكون نسبتهم إياه إلى هذه الجملة في حال واحدة تخرّج على التناقض.
وكذلك قولهم في القرآن: إنه أحاديث الأولين، وإنه مُفترى، والافتراء خلاف الأساطير مع أنهم عجزوا عن إتيان مثله، يكون هذا تناقضا من القول.
فدلّ اختلافهم في القول فيهما على أنهم قالوا ذلك عن جهل لا عن علم؛ إذ لو كان عن علم ذلك لكان لا يختلف، ولا يتناقض، وهذا الخطاب على هذا التأويل يكون للكَفَرة...
والثالث: {إنكم لفي قول مختلف} أي قول متفرّق ومذهب متناقض؛ فإنهم كانوا يعبدون أشياء على هواهم؛ فإذا هوُوا شيئا آخر تركوا ذلك، وعبدوا الأخير. وكذلك يقولون قولا بلا حجّة، ثم يرجعون إلى قول آخر، لا ثبات لهم على شيء، وهو كقوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} [آل عمران: 105].
والرابع: {إنكم لفي قول مختلف} أي في أمر الآخرة، لأن منهم من يدّعي أن الآخرة لهم، لو كانت، ومنهم من يدّعي الشِّرْكة مع المسلمين، فردّ الله تعالى عليهم بقوله: {يؤْفَكُ عنه من أُفِك} [الذاريات: 9] وهو كقوله تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} {ما لكم كيف تحكُمون} [القلم: 35 و36] وقوله: {أم حسِب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتُهم ساء ما يحكمون} [الجاثية: 21]...
وذكر بعض أهل التأويل أن الناس يأتون مكة من البلدان المختلفة ليتفحّصوا عن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمعوا كلامه، فكان كفار مكة يصدّونهم عنه، ويقول بعضهم: إنه مجنون، وبعضهم كذّاب، وبعضهم شاعر، وذلك قوله تعالى: {إنكم لفي قول مختلف}.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"إنكم لفي قول مختلف" معناه إنكم في الحق لفي قول مختلف، لا يصح إلا واحد منه، وهو أمر النبي (صلى الله عليه وآله) وما دعا إليه، وهو تكذيب فريق به وتصديق فريق. ودليل الحق ظاهر، وفائدته أن أحد الفريقين في هذا الاختلاف مبطل، لأنه اختلاف تناقض، فاطلبوا الحق منه بدليله وإلا هلكتم...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} أي: إنكم أيها المشركون المكذبون للرسل لفي قول مختلف مضطرب، لا يلتئم ولا يجتمع...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يقسم بالسماء المنسقة المحبوكة على أنهم في قول مختلف، مضطرب لا قوام له ولا قرار، ولا ثبات له ولا استقرار...
ويتضح اضطرابهم واختلافهم وما هم فيه من الأمر المريج: حين يعرض في ظل السماء ذات الحبك المنسقة التركيب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والقول المختلف: المتناقض الذي يخالف بعضه بعضاً فيقتضي بعضه إبطال بعض. الذي هم فيه هو جميع أقوالهم والقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك أقوالهم في دين الإشراك فإنها مختلفة مضطربة متناقضة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} وهذا هو جواب القسم بالسماء، الذي يريد أن يؤكد واقع القول المختلف في مضمونه وأبعاده، فلا يرجع إلى قاعدة واحدةٍ، لأن الرأي عندهم يخضع للظن والتخمين، دون اعتماد الأسس العلمية التي تؤدي إلى اليقين في مواقع الحوار مما يمكن أن يلتقي عليه الجميع...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(إنّكم لفي قول مختلف). فدائماً أنتم تتناقضون في الكلام، وكأنّ هذا التناقض في كلامكم دليل على أنّه لا أساس لكلامكم أبداً. ففي مسألة المعاد تقولون أحياناً: لا نصدّق أبداً أن نعود أحياء بعد أن تصير عظامنا رميماً. وتارةً تقولون نحن نشكّ في هذه القضيّة ونتردّد! وتارةً تضيفون أن هاتوا آباءنا وأسلافنا من قبورهم ليشهدوا أنّ بعد الموت قيامةً ونشوراً لنقبل بما تقولون! وتقولون في شأن النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) تارةً بأنّه شاعر، أو بأنّه ساحر، وتارةً تقولون أنّه لمجنون، وتارةً تقولون إنّما يعلمه بشر فهو مُعَلَّم!! كما تقولون في شأن القرآن بأنّه: أساطير الأوّلين تارةً، أو تقولون بأنّه شعر، وتارةً تسمّونه سحراً، وحيناً آخر تقولون أنّه كذب افتراه وأعانه عليه قوم آخرون!.. الخ. فقسماً بحُبكِ السماء وتجاعيدها إنّ كلامكم مختلف ومليء بالتناقض، ولو كان لكلامكم أساس لكنتم على الأقل تقفون عند موضوع خاصّ ومطلب معيّن ولما تحوّلتم منه كلّ يوم إلى موضوع آخر! وهذا التعبير في الحقيقة إنّما هو استدلال على بطلان ادّعاء المخالفين في شأن التوحيد والمعاد والنّبي والقرآن، وإن كان اعتماد هذه الآيات في الأساس على مسألة المعاد كما تدلّ عليه القرينة في الآيات التالية!. ونعرف أنّه يُستند دائماً لكشف كذب المدّعين الكذبة سواءً في المسائل القضائية أو المسائل الأخرى على تناقض كلامهم وتضادّه، فكذلك القرآن يعوّل على هذا الموضوع تماماً!