( وكنا نكذب بيوم الدين )وهذه أس البلايا . فالذي يكذب بيوم الدين تختل في يده جميع الموازين ، وتضطرب في تقديره جميع القيم ، ويضيق في حسه مجال الحياة ، حين يقتصر على هذا العمر القصير المحدود في هذه الأرض ؛ ويقيس عواقب الأمور بما يتم منها في هذا المجال الصغير القصير ، فلا يطمئن إلى هذه العواقب ، ولا يحسب حساب التقدير الأخير الخطير . . ومن ثم تفسد مقاييسه كلها ويفسد في يده كل أمر من أمور هذه الدنيا ، قبل أن يفسد عليه تقديره للآخرة ومصيره فيها . . وينتهي من ثم إلى شر مصير .
كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } يعني : الموت . كقوله : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما هو - يعني عثمان بن مظعون - فقد جاءه اليقين من ربه " . {[29527]}
وأنهم كذبوا بالجزاء فلم يتطلبوا ما ينجيهم . وهذا كناية عن عدم إيمانهم ، سلكوا بها طريق الإِطناب المناسبَ لمقام التحسر والتلهف على ما فات ، فكأنهم قالوا : لأنا لم نكن من المؤمنين لأن أهل الإِيمان اشتهروا بأنهم أهل الصلاة ، وبأنهم في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ، وبأنهم يؤمنون بالآخرة وبيوم الدين ويصدقون الرسل وقد جمعها قوله تعالى في سورة البقرة ( 2 4 ) { هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون } .
وأصل الخوض الدخول في الماء ، ويستعار كثيراً للمحادثة المتكررة ، وقد اشتهر إطلاقه في القرآن على الجدال واللجاج غير المحمود قال تعالى : { ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } [ الأنعام : 91 ] وغيرَ ذلك ، وقد جمع الإِطلاقين قوله تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } [ الأنعام : 68 ] .
وباعتبار مجموع الأسباب الأربعة في جوابهم فضلاً عن معنى الكناية ، لم يكن في الآية ما يدل للقائلين بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قالوا: وكنا نكذّب بيوم المجازاة والثواب والعذاب، ولا نصدّق بثواب ولا عقاب ولا حساب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الله عز وجل جمع في الذكر بين التكذيب بيوم الدين وبين ترك الصلاة والإطعام، وهذا، والله أعلم، يحتمل وجهين:
أحدهما: أن الذي يقر بالصلاة والإطعام وإيتاء الزكاة، هو الذي يقر بيوم الدين، لأن المرء إنما يرغب في فعل هذه الأشياء لما يطمع من المنافع في العواقب، ويتقي تركها مخافة التبعة في العواقب.
فإذا لم يقر بيوم الدين لم يرج المنافع، ولا خاف المضار، فيحمله ذلك على ترك الإطعام وتضييع الصلاة وعلى ترك إيتاء الزكاة وعلى جحدها كلها وعدم قبولها، وهو كقوله عز وجل: {أرأيت الذي يكذب بالدين} {فذلك الذي يدع اليتيم} {ولا يحض على طعام المسكين} [الماعون: 1 -3] لعدم رجاء العواقب. فإذا لم ير لفعله عاقبة لم يقم بالانتصار لليتيم، ولا قام بإحسان إلى المسكين، بل تكذيبه بيوم الدين يحمله على الجور على اليتيم وترك الصلاة وإيتاء الزكاة وترك الإطعام.
والثاني: أن يكون الذي حملهم على التكذيب بيوم الدين هذه الوظائف التي وضعت عليهم بالإسلام لأنهم إذا آمنوا بيوم الدين لزمهم تحمل هذه الأحمال من إقامة الأفعال: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطعام المساكين وصيام شهر رمضان وغير ذلك من العبادات، فاشتد عليهم، فتركوا الإيمان بها لئلا يلزمهم تحمل هذه الأفعال التي حملها أهل الإيمان.
وقوله تعالى: {وكنا نخوض مع الخائضين} فالخائض هو الذي يخوض في الباطل.
وقوله تعالى: {حتى أتانا اليقين} أي حتى أيقنا أنا كنا على باطل في ما كنا نخوض فيه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لم أخر التكذيب وهو أعظمها؟ قلت: أرادوا أنهم بعد ذلك كله كانوا مكذبين بيوم الدين تعظيماً للتكذيب.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والتكذيب {بيوم الدين} كفر صراح وجهل بالله تعالى.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الإدمان على الباطل يجر إلى غلبة الهزء والسخرية، وغلبه ذلك ولا بد توجب إفساد القوة العلمية بتصديق الكذب وتكذيب الصدق، قالوا بياناً لاستحبابهم الخلود: {وكنا نكذب} أي بحيث صار لنا ذلك وصفاً ثابتاً {بيوم الدين}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذه أس البلايا، فالذي يكذب بيوم الدين تختل في يده جميع الموازين، وتضطرب في تقديره جميع القيم، ويضيق في حسه مجال الحياة، حين يقتصر على هذا العمر القصير المحدود في هذه الأرض؛ ويقيس عواقب الأمور بما يتم منها في هذا المجال الصغير القصير، فلا يطمئن إلى هذه العواقب، ولا يحسب حساب التقدير الأخير الخطير.. ومن ثم تفسد مقاييسه كلها ويفسد في يده كل أمر من أمور هذه الدنيا، قبل أن يفسد عليه تقديره للآخرة ومصيره فيها.. وينتهي من ثم إلى شر مصير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وأنهم كذبوا بالجزاء فلم يتطلبوا ما ينجيهم، وهذا كناية عن عدم إيمانهم، سلكوا بها طريق الإِطناب المناسبَ لمقام التحسر والتلهف على ما فات، فكأنهم قالوا: لأنا لم نكن من المؤمنين؛ لأن أهل الإِيمان اشتهروا بأنهم أهل الصلاة، وبأنهم في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم، وبأنهم يؤمنون بالآخرة وبيوم الدين ويصدقون الرسل، وقد جمعها قوله تعالى في سورة البقرة (2- 4) {هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون}.
وأصل الخوض الدخول في الماء، ويستعار كثيراً للمحادثة المتكررة، وقد اشتهر إطلاقه في القرآن على الجدال واللجاج غير المحمود، قال تعالى: {ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} [الأنعام: 91] وغيرَ ذلك، وقد جمع الإِطلاقين قوله تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره} [الأنعام: 68].