ثم يعود للحديث عن المشركين الذين يطلقون هذه الأساطير ؛ فيعرض عهودهم ووعودهم ، يوم كانوا يحسدون أهل الكتاب على أنهم أهل كتاب ؛ ويقولون لو كان عندنا ذكر من الأولين - من إبراهيم أو من جاء بعده - لكنا على درجة من الإيمان يستخلصنا الله من أجلها ويصطفينا :
( وإن كانوا ليقولون : لو أن عندنا ذكراً من الأولين . لكنا عباد الله المخلصين ) . .
وقوله : { وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ . لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ . لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } أي : قد كانوا يتمنون قبل أن تأتيهم يا محمد لو كان عندهم من يذكرهم بأمر الله ، وما كان من أمر القرون الأولى ، ويأتيهم بكتاب الله ، كما قال تعالى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا } [ فاطر : 42 ] ، وقال : { أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ . أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ } [ الأنعام : 156 ، 157 ] . ولهذا قال هاهنا : { فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } ،
وقوله : ( وَإنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أنّ عِنْدَنا ذِكْرا مِنَ الأوّلينَ لَكُنا عبادَ الله ) : يقول تعالى ذكره : وكان هؤلاء المشركون من قريش يقولون قبل أن يبعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم نبيا ، لَوْ أنّ عنْدَنا ذِكْرا مِنَ الأوّلِينَ يعني كتابا أُنزل من السماء كالتوراة والإنجيل ، أو نبيّ أتانا مثل الذي أتى اليهود والنصارى لَكُنّا عِبادَ اللّهِ الذين أخلَصهم لعبادته ، واصطفاهم لجنته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَإنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أنّ عِنْدَنا ذِكْرا مِنَ الأوّلِينَ لَكُنّا عِبادَ اللّهِ المُخْلَصِينَ ) : قال : قد قالت هذه الأمة ذاك قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم : لو كان عندنا ذكر من الأوّلين ، لكنا عباد الله المخلصين فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به ، فسوف يعلمون .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : ذِكْرا مِنَ الأوّلِينَ قال : هؤلاء ناس من مشركي العرب قالوا : لو أن عندنا كتابا من كتب الأوّلين ، أو جاءنا علم من علم الأوّلين قال : قد جاءكم محمد بذلك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : رجع الحديث إلى الأوّلين أهل الشرك وَإنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أنّ عِنْدَنا ذِكْرا مِنَ الأوّلِينَ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لَوْ أنّ عِنْدَنا ذِكْرا مِنَ الأوّلِينَ لَكُنّا عِبادَ اللّهِ المُخْلَصِينَ هذا قول مشركي أهل مكة ، فلما جاءهم ذكر الأوّلين وعلم الاَخرين ، كفروا به فسوف يعلمون .
{ لو } شرطية وسدّت { أنّ } وصلتها مسدّ فعل الشرط وهو كثير في الكلام .
والذكر : الكتاب المقروء ، سمي ذِكراً لأنه يذكر الناس بما يجب عليهم مُسمّى بالمصدر . وتقدم عند قوله تعالى : { وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } في سورة [ الحجر : 6 ] .
و { مِن الأوَّلين } صفة ل { ذِكراً ، } والمراد ب { الأوَّلين } الرسل السابقون ، و { من } ابتدائية ، أي ذكراً جائياً من الرسل الأولين ، أي مثل موسى وعيسى . ومرادهم بهذا أن الرسل الأولين لم يكونوا مرسلين إليهم ولا بلغوا إليهم كتابهم ولو كانوا مرسلين إليهم لآمنوا بهم فكانوا عباد الله المخلصين ، فذكر في جواب { لو } ما هو أخص من الإِيمان ليفيد معنى الإِيمان بدلالة الفحوى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
خبر الأمم الخالية كيف أهلكوا، وما كان من أمرهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله: (وَإنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أنّ عِنْدَنا ذِكْرا مِنَ الأوّلينَ لَكُنا عبادَ الله): يقول تعالى ذكره: وكان هؤلاء المشركون من قريش يقولون قبل أن يبعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم نبيا، "لَوْ أنّ عنْدَنا ذِكْرا مِنَ الأوّلِينَ "يعني كتابا أُنزل من السماء كالتوراة والإنجيل، أو نبيّ أتانا مثل الذي أتى اليهود والنصارى "لَكُنّا عِبادَ اللّهِ" الذين أخلَصهم لعبادته، واصطفاهم لجنته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... قال بعضهم: خبرا من الأمم الماضية أنهم على ماذا أهلكوا؟ لو علمنا أنهم أهلكوا بما يذكر محمد {لكنا عباد الله المخلصين}.
ويحتمل أن يكون هذا منهم احتجاجا: أن آباءنا قد عبدوا الأصنام، ففعلوا ما نحن فاعلون، ثم لم ينزل بهم العذاب.
فلو كان صنيعهم غير مرضيّ عند الله تعالى، وإن كانوا غير مأمورين به، ما تركهم على ذلك.
فعلى ذلك يحتمل أن يكون قولهم الذي قالوا: {لو أن عندنا ذكرا من الأولين} أي لم يهلكوا بما نحن فيه، إنما يذكر ذلك لشيء آخر.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
علما، يسمى العلم ذكرا؛ لأن الذكر من أسبابه، فسمى بأسمه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بين ضلالهم وهداه صلى الله عليه وسلم وهدى من اتبعه -بما أشار إليه بصفة الربوبية التي أضافها إليه في قوله "ألربك "أعلم بأنهم زادوا على عيب الضلال في نفسه عيب الإخلاف للوعد والنقض لما أكدوه من العهد، فقال مؤكداً إشارة إلى أنه لا يكاد يصدق أن عاقلاً يؤكد على نفسه في أمر ثم يخلفه جواباً لمن يقول: هل نزهوه كما نزهه المخلصون: {وإن} أي فعلوا ذلك من الضلال بالشبه التي افتضحت بما كشفناه من ستورها ولم ينزهوا كما نزه المخلصون والحال أنهم {كانوا} قبل هذا {ليقولون} أي قولاً لا يزالون يجددونه مع ما فيه من التأكيد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{لو} شرطية وسدّت {أنّ} وصلتها مسدّ فعل الشرط، وهو كثير في الكلام.
الذكر: الكتاب المقروء، سمي ذِكراً لأنه يذكر الناس بما يجب عليهم مُسمّى بالمصدر وتقدم عند قوله تعالى: {وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} في سورة [الحجر: 6].
{مِن الأوَّلين} صفة ل {ذِكراً،} والمراد ب {الأوَّلين} الرسل السابقون، و {من} ابتدائية، أي ذكراً جائياً من الرسل الأولين، أي مثل موسى وعيسى، ومرادهم بهذا أن الرسل الأولين لم يكونوا مرسلين إليهم ولا بلغوا إليهم كتابهم ولو كانوا مرسلين إليهم لآمنوا بهم فكانوا عباد الله المخلصين، فذكر في جواب {لو} ما هو أخص من الإِيمان ليفيد معنى الإِيمان بدلالة الفحوى.
... عجيبٌ منهم أنْ يبرروا شركهم بهذه الحجة، وقد جاءهم سيد المرسلين جميعاً، فالرسل السابقون كانوا محدودي الرسالة زماناً ومكاناً، وكانوا جميعاً قبل رسول الله مُكلَّفين بنقل حكم الله إلى الخَلْق، أمَّا رسول الله: فهو الرسول الوحيد الذي فُوِّض من الله أنْ يُشرِّع للخلق؛ لأن رسالته عامة في الزمان وفي المكان إلى قيام الساعة.
إذن: كيف تريدون ذِكْراً من الأولين، ومعكم خاتم الرسل المشرِّع الذي تأتيه من الله القضية الكلية فيُبيِّنها ويشرحها ويُفصِّلها.