ثم نفى - سبحانه - عنهم - أيضا - تخفيف العذاب أو تأخيره فقال : { وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } . أي : وإذا أبصر الذين ظلموا العذاب الذي أعد لهم في الآخرة بسبب ظلمهم وكفرهم في الدنيا ، فزعوا وخافوا ، ولكن خوفهم وفزعهم لن يغير من الأمر شيئا ، إذ لا يخفف عنهم العذاب بسبب خوفهم أو فزعهم : ولا هم يمهلون أو يؤخرون عنه .
وعلق - سبحانه - الرؤية بالعذاب ، للإشعار بأن فجيعتهم الكبرى كانت عند إبصاره ومشاهدته .
{ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } : أي : أشركوا ، { الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ } ، أي : لا يفتر عنهم ساعة واحدة ، { وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ } ، أي : [ و ]{[1]} لا يؤخر عنهم ، بل يأخذهم سريعا من الموقف بلا حساب ، فإنه إذا جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك ، فيشرف عُنُق منها على الخلائق ، وتزفر زفرة لا{[2]} يبقى أحد إلا جثا لركبتيه ، فتقول : إني وكلت بكل جبار عنيد ، الذي جعل مع الله إلهًا آخر ، وبكذا وكذا{[3]} وتذكر{[4]} أصنافا من الناس ، كما جاء في الحديث . ثم تنطوي{[5]} عليهم وتتلقطهم من الموقف كما يتلقط الطائر الحب ، قال الله تعالى : { إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا } [ الفرقان : 12 - 14 ] ، وقال تعالى : { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } [ الكهف : 53 ] . وقال تعالى : { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ } [ الأنبياء : 39 ، 40 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا رَأى الّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وإذا عاين الذين كذّبوك يا محمد وجَحَدوا نُبوّتك والأمم الذين كانوا على منهاج مشركي قومك عذاب الله ، فلا ينجيهم من عذاب الله شيء لأنهم لا يؤذن لهم فيعتذرون ، فيخفّف عنهم العذاب بالعذر الذي يدّعونه ، { وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ } يقول : ولا يُرْجَئُون بالعقاب ؛ لأن وقت التوبة والإنابة قد فات ، فليس ذلك وقتا لهما ، وإنما هو وقت للجزاء على الأعمال ، فلا ينظر بالعتاب ليعتب بالتوبة .
عطف على جملة { ثم لا يؤذن للذين كفروا } [ سورة النحل : 84 ] . و { إذا } شرطية ظرفية .
وجملة { فلا يخفف } جواب { إذا } . وقرن بالفاء لتأكيد معنى الشرطية والجوابية لدفع احتمال الاستئناف .
وصاحب « الكشاف » جعل { إذا } ظرفاً مجرّداً عن معنى الشرطية منصوباً بفعل محذوف لقصد التهويل يقتضي تقديره عدمُ وجود متعلّق للظرف ليقدّر له متعلّق بما يناسب ، كما قدّر في قوله تعالى : { ويوم نبعث } [ سورة النحل : 84 ] . والتقدير : إذا رأى الذين ظلموا العذاب ثقل عليهم وبغتهم ، وعلى هذا فالفاء في قوله : { فلا يخفف } فصيحة وليست رابطة للجواب .
و { الذين ظلموا } هم الذين كفروا ، فالتعبير به من الإظهار في مقام الإضمار لقصد إجراء الصفات المتلبّسين بها عليهم . والمعنى : فلا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون ، ثم يساقون إلى العذاب فإذا رأوه لا يخفّف عنهم ، أي يسألون تخفيفه أو تأخير الإقحام فيه فلا يستجاب لهم شيء من ذلك . وأطلق العذاب على آلاته ومكانه . وجاء المسند إليه مُخبراً عنه بالجملة الفعلية ، لأن الإخبار بالجملة الفعلية عن الاسم يفيد تقوّي الحكم ، فأريد تقوّي حكم النفي ، أي أن عدم تخفيف العذاب عنهم محقّق الوقوع لا طماعية في إخلافه ، فحصل تأكيد هذه الجملة كما حصل تأكيد الجملة التي قبلها بالفاء ، أي فهم يلقون بسرعة في العذاب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلا يخفف عنهم}، يعني: العذاب،
{ولا هم ينظرون}، يعني: ولا يناظر بهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإذا عاين الذين كذّبوك يا محمد وجَحَدوا نُبوّتك والأمم الذين كانوا على منهاج مشركي قومك عذاب الله، فلا ينجيهم من عذاب الله شيء لأنهم لا يؤذن لهم فيعتذرون، فيخفّف عنهم العذاب بالعذر الذي يدّعونه.
{وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} يقول: ولا يُرْجَئُون بالعقاب؛ لأن وقت التوبة والإنابة قد فات، فليس ذلك وقتا لهما، وإنما هو وقت للجزاء على الأعمال، فلا ينظر بالعتاب ليعتب بالتوبة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإذا رءا الذين ظلموا العذاب}، أي: وقعوا فيه. دليله ما ذكر: {فلا يخفف عنهم} (في وجهين:...
أحدهما: دل هذا (أنه) لم يرد به رؤية العذاب، ولكن الوقوع فيه، {فلا يخفف عنهم}؛ لأنه يدوم، ولا تخفيف مما يدوم من العذاب، {ولا هم ينظرون}، أي: يمهلون من العذاب...
والثاني: {فلا يخفف عنهم العذاب}، بما استخفوا، واستحقوا، واستوجبوا. أو (ما) ذكرنا أنه لا يكون لعذابهم انقطاع...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم أخبر تعالى أن الظالمين إذا رأوا العذاب يوم القيامة وشاهدوه، فلا يخفف عنهم ذلك العذاب إذا حصلوا فيه، "ولا هم ينظرون"، أي: لا يؤخرون إلى وقت آخر، بل عذابهم دائم في جميع الأوقات، ووقت التوبة والندم قد فات.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وإنما مقصد الآية الفرق بين ما يحل بهم وبين رزايا الدنيا، فإن الإنسان لا يتوقع أمراً من خطوب الدنيا إلا وله طمع في أن يتأخر عنه وفي أن يجيئه في أخف ما يتوهم برجائه، وكذلك متى حل به كان طامعاً في أن يخف، وقد يقع ذلك في خطوب الدنيا كثيراً، فأخبر الله تعالى أن عذاب الآخرة إذا عاينه الكافر، لا طماعية فيه بتخفيف ولا بتأخير...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم وصل به أن ما يوجبه الغضب يدوم عليهم في ذلك اليوم، فقال تعالى عاطفاً على ما بعد "ثم ": {وإذا رءا}، وأظهر موضع الإضمار تعميماً فقال تعالى: {الذين ظلموا}، فعبر بالوصف الموجب للعذاب، {العذاب}، بعد الموقف وشهادة الشهداء، وجزاء الشرط محذوف لدلالة ما قرن بالفاعلية تقديره: لابسهم، {فلا يخفف} أي: يحصل تخفيف بنوع من الأنواع ولا بأحد من الخلق، {عنهم} شيء منه، {ولا هم ينظرون}، بالتأخير، ولا لحظة بوجه من الوجوه على تقدير من التقادير من أحد ما.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {الذين ظلموا} هم الذين كفروا، فالتعبير به من الإظهار في مقام الإضمار لقصد إجراء الصفات المتلبّسين بها عليهم. والمعنى: فلا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون، ثم يساقون إلى العذاب فإذا رأوه لا يخفّف عنهم، أي يسألون تخفيفه أو تأخير الإقحام فيه فلا يستجاب لهم شيء من ذلك...
وأطلق العذاب على آلاته ومكانه. وجاء المسند إليه مُخبراً عنه بالجملة الفعلية، لأن الإخبار بالجملة الفعلية عن الاسم يفيد تقوّي الحكم، فأريد تقوّي حكم النفي، أي أن عدم تخفيف العذاب عنهم محقّق الوقوع لا طماعية في إخلافه، فحصل تأكيد هذه الجملة كما حصل تأكيد الجملة التي قبلها بالفاء، أي فهم يلقون بسرعة في العذاب...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{وإذا رأى الذين ظلموا العذاب} جواب (إذا) محذوف يذهب فيه العقل كل مذهب، هالهم الأمر، وأحسوا بمقت الله تعالى عليه، وحالوا طلب التخفيف، وقد أجابهم الله تعالى بقوله: {فلا يخفف عنهم}، فالفاء عاطفة على محذوف مأخوذ من معنى الخوف والرغبة في التخفيف أو التأجيل عسى أن يعملوا عملا صالحا ينجيهن من ذلك العذاب العتيد، الذي كانوا يترقبونه... وعبر سبحانه بالذين ظلموا؛ لأنهم أشركوا، وإن الشرك لظلم عظيم، ولأنهم ظلموا أنفسهم بكفرهم وعنادهم، وظلموا عقولهم وإدراكهم، وإذا أشركوا مع الله حجارة لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع ولا تبصر وظلموا المؤمنين بإيذائهم وفسقهم في دينهم وظلموا الرسول باستهزائهم به، وتسبب هذا التكاثر كان العذاب الهائل الذي لم يعرفوا له حدا ولا نهاية...
كأن العذاب ينصب أمامهم، فيرونه قبل أن يباشروه، وهكذا يجمع الله عليهم ألواناً من العذاب؛ لأن إدراكات النفس تتأذى بالمشاهدة قبل أن تألم الأحاسيس بالعذاب...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والآيتان أشارتا إلى أربع مراحل لأهوال المجرمين (وهو ما نشاهد شبيهه في حياتنا الدنيا):...
المرحلة الأُولى: سعي المجرم للتنصل والتزوير لتبرئة نفسه، وإِن لم يحصل على هدفه يسعى إلى المرحلة التالية...
المرحلة الثّانية: يستعتب صاحب الحق ويمتص غضبه وصولا لرضاه، وإِذا لم ينفعه ذلك ينتقل إلى المرحلة الثّالثة...
المرحلة الثّالثة: يطلب تخفيف العذاب، فيقول: عاقبني ولكنْ خفف العذاب! وإِن لم يستجب له لعظم ذنبه فإِنّه سيطلب الطلب الأخير ...
المرحلة الرّابعة: يطلب الإِمهال والتأجيل، وهو المحاولة الأخيرة للنجاة من العقاب ...
... إِلاّ أنّ القرآن الكريم يجيب عن طلبات المجرمين بعدم حصول إِذن الدفاع عنهم، ولا يمكنهم تحصيل رضا المولى جل وعلا، ولا يخفف عنهم العذاب، ولا هم ينظرون، لأن أعمالهم من القباحة وذنوبهم من العظمة تسد كل أبواب الاستجابة.