1 - أقسم بالآيات المرسلة على لسان جبريل إلى محمد للعرف والخير ، فالآيات القاهرات لسائر الأديان الباطلة تنسفها نسفاً ، وبالآيات الناشرات للحكمة والهداية في قلوب العالمين نشراً عظيماً ، فالفارقات بين الحق والباطل فرقاً واضحاً ، فالملقيات على الناس تذكرة تنفعهم - إعذاراً لهم وإنذاراً - فلا تكون لهم حُجة : إن الذي توعدونه من مجيء يوم القيامة لنازل لا ريب فيه .
وقوله : { والناشرات نَشْراً } أى : وحق الرياح التى تنتشر انتشارا عظيما فى الآفاق ، فتأتى بالسحب ، التى تتحول بقدرة الله - تعالى - إلى أمطار غزيرة نافعة .
قال ابن كثير - بعد أن ذكر آراء العلماء فى معنى هذه الألفاظ - : والأظهر أن المرسلات هى الرياح ، كما قال - تعالى - : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ . . . } وقال - سبحانه - : { وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } وهكذا العاصفات هى الرياح ، يقال : عصفت الريح إذا هبت بتصويت ، وكذا { والناشرات } : هى الرياح التى تنشر السحاب فى آفاق السماء كما يشاء الرب - عز وجل - .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا زكريا بن سهل المروزي ، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ، أخبرنا الحسين بن واقد ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هُرَيرة : { وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا } قال : الملائكة .
قال : ورُوي عن مسروق ، وأبي الضحى ، ومجاهد - في إحدى الروايات - والسّدي ، والربيع بن أنس ، مثلُ ذلك .
ورُويَ عن أبي صالح أنه قال : هي الرسل . وفي رواية عنه : أنها الملائكة . وهكذا قال أبو صالح في " الْعَاصِفَاتِ " و " النَّاشِرَات " [ و " الْفَارِقَاتِ " ] {[29627]} و " الْمُلْقِيَاتِ " : أنها الملائكة .
وقال الثوري ، عن سلمة بن كُهَيل ، عن مُسلم البَطين ، عن أبي العُبَيدَين قال : سألت ابنَ مسعود عن { وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا } قال : الريح . وكذا قال في : { فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا } إنها الريح . وكذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبو صالح - في رواية عنه - وتوقف ابن جرير في { وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا } هل هي الملائكة إذا أرسلت بالعُرْف ، أو كعُرْف الفَرَس يتبع بعضهم بعضا ؟ أو : هي الرياح إذا هَبَّت شيئا فشيئا ؟ وقطع بأن العاصفات عصفا هي الرياح ، كما قاله ابن مسعود ومن تابعه . وممن قال ذلك في العاصفات أيضا : علي بن أبي طالب{[29628]} ، والسدي ، وتوقف في { وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا } هل هي الملائكة أو الريح ؟ كما تقدم . وعن أبي صالح : أن الناشرات نشرا : المطر .
والأظهر أن : " الْمُرْسَلات " هي الرياح ، كما قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } [ الحجر : 22 ] ، وقال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ الأعراف : 57 ] وهكذا العاصفات هي : الرياح ، يقال : عصفت الريح إذا هَبَّت بتصويت ، وكذا الناشرات هي : الرياح التي تنشر السحاب في آفاق السماء ، كما يشاء الرب عز وجل .
وقوله : والنّاشِرَاتِ نَشْرا اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : عُني بالناشرات نَشْرا : الريح . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا المحاربي ، عن المسعودي ، عن سَلَمَة بن كهيل ، عن أبي العُبيدين أنه سأل ابن مسعود عن النّاشِرَاتِ نَشْرا قال : الريح .
حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : أخبرنا النضر بن شميل ، قال : أخبرنا المسعودي ، عن سَلَمة بن كهيل ، عن أبي العُبيدين ، عن ابن مسعود ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن مسلم ، عن أبي العُبيدين ، قال : سألت عبد الله بن مسعود ، فذكر مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن سَلَمة بن كهيل ، عن مسلم البطين ، عن أبي العُبيدين ، قال : سألت عبد الله ، فذكر مثله .
قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد والنّاشِرَاتِ نَشْرا قال : الريح .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبيد الله بن معاذ ، قال : حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن إسماعيل السديّ ، عن أبي صالح صاحب الكلبي ، في قوله : والنّاشِرَاتِ نَشْرا قال : هي الرياح .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والنّاشِرَاتِ نَشْرا قال : الرياح .
وقال آخرون : هي المطر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : حدثنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، قال : سألت أبا صالح ، عن قوله والنّاشِرَاتِ نَشْرا : قال المطر .
حدثنا أبو كريبٍ ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح والنّاشِرَاتِ نَشْرا قال : هي المطر .
قال : ثنا وكيع ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، مثله .
وقال آخرون : بل هي الملائكة التي تنشُر الكتب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن هشام ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن السديّ ، عن أبي صالح والنّاشِرَاتِ نَشْرا قال : الملائكة تنشُر الكتب .
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أقسم بالناشرات نشرا ، ولم يَخْصُص شيئا من ذلك دون شيء ، فالريح تنشر السحاب ، والمطر ينشر الأرض ، والملائكة تنشر الكتب ، ولا دلالة من وجه يجب التسليم له على أن المراد من ذلك بعض دون بعض ، فذلك على كل ما كان ناشرا .
واختلف الناس في قولهم { والناشرات } فقال مقاتل والسدي هي الملائكة تنشر صحف العباد بالأعمال ، وقال ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة هي الرياح تنشر رحمة الله ومطره ، وقال بعض المتأولين : { الناشرات } الرمم الناشرات في بعث يوم القيامة يقال نشرت الميت ، ومنه قول الأعشى : [ السريع ]
يا عجباً للميت الناشر{[11543]}*** وقال آخرون : { الناشرات } التي يجيء بالأمطار تشبه بالميت ينشر ، وقال أبو صالح : { الناشرات } الأمطار التي تحيي الأرض ، وقال بعض المتأولين : { الناشرات } طوائف الملائكة التي تباشر إخراج الموتى من قبورهم للبعث فكأنهم يحيونهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
وهي أعمال بني آدم تنشر يوم القيامة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: عُني بالناشرات نَشْرا: الريح.
وقال آخرون: بل هي الملائكة التي تنشُر الكتب..
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بالناشرات نشرا، ولم يَخْصُص شيئا من ذلك دون شيء، فالريح تنشر السحاب، والمطر ينشر الأرض، والملائكة تنشر الكتب، ولا دلالة من وجه يجب التسليم له على أن المراد من ذلك بعض دون بعض، فذلك على كل ما كان ناشرا.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
النشر: حقيقته ضد الطي ويكثر استعماله مجازاً في الإِظهار والإِيضاح وفي الإِخراج.
ف {الناشرات} إذا جعل وصفاً للملائكة جاز أن يكون نشرَهم الوحي، أي تكرير نزولهم لذلك، وأن يكون النشر كناية عن الوضوح، أي بالشرائع البينة.
وإذا جعل وصفاً للرياح فهو نشر السحاب في الأجواء فيكون عطفه بالواو دون الفاء لتنبيه على أنه معطوف على {المرسلات} لا على {العاصفات}؛ لأن العصف حالة مضرة والنشر حالة نفع.