{ 39 - 40 } { قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ }
أي : { قُلْ } لهم يا أيها الرسول : { يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ } أي : على حالتكم التي رضيتموها لأنفسكم ، من عبادة من لا يستحق من العبادة شيئا ولا له من الأمر شيء .
{ إِنِّي عَامِلٌ } على ما دعوتكم إليه ، من إخلاص الدين للّه تعالى وحده . { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } لمن العاقبة
ثم أمره - سبحانه - مرة أخرى أن يتحداهم وأن يتهددهم فقال : { قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } أى : وقل لهم للمرة الثالثة : اعملوا ما شئتم عمله من العداوة لى ، والتهديد بآلهتكم .
والمكانة مصدر مكن - ككرم - ، يقال : مكن فلان من الشئ مكانة ، إذا تمكن منه أبلغ تمكن .
أى : اعملوا ما فى إمكانكم عمله معى . والأمر للتهديد والوعيد .
{ إِنِّي عَامِلٌ } أى : إنى سأقابل عملكم السيئ بعمل أحسن من جانبى ، وهو الدعوة إلى وحدانية الله ، وإلى مكارم الأخلاق .
{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } من منا الذى ينجح فى عمله ، ومن منا يأتيه عذاب يخزيه ويفضحه ويهينه فى الدنيا ، ومن منا الذى يحل عليه عذاب مقيم فى الآخرة .
( قل : يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل . فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم . . )
يا قوم اعملوا على طريقكم وعلى حالكم . إني ماض في طريقي لا أميل ولا أخاف ولا أقلق . وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه في الدينا ، ويحل عليه عذاب مقيم في الآخرة . .
لقد قضي الأمر بعد عرض الحقيقة البسيطة التي تنطق بها الفطرة ويشهد بها الوجود . . إن الله هو خالق السماوات والأرض . القاهر فوق السماوات والأرض . وهو صاحب هذه الدعوة التي يحملها الرسل ويتولاها الدعاة . فمن ذا في السماوات والأرض يملك لرسله شيئاً أو لدعاته ? ومن ذا يملك أن يدفع عنهم ضراً أو يمسك عنهم رحمة ? وإذا لم يكن . فماذا يخشون وماذا يرجون عند غير الله ?
ألا لقد وضح الأمر ولقد تعين الطريق ؛ ولم يعد هناك مجال لجدال أو محال !
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ يَقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَىَ مَكَانَتِكُمْ إِنّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مّقِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لمشركي قومك ، الذي اتخذوا الأوثان والأصنام آلهة يعبدونها من دون الله اعملوا أيها القوم على تمكنكم من العمل الذي تعملون ومنازلكم ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : عَلى مَكانَتِكُمْ قال : على ناحيتكم إنّي عامِلٌ كذلك على تؤدة على عمل من سلف من أنبياء الله قبلي فَسَوْفَ تَعْلَمونَ إذا جاءكم بأس الله ، من المحقّ منا من المبطل ، والرشيد من الغويّ .
ثم أمره تعالى بأن يصدع بالاتكال على الله ، وأنه حسبه من كل شيء ومن كل ناصر ، ثم أمره بتوعدهم في قوله : { اعملو على مكانتكم إني عامل } ما رأيتموه متمكناً لكم على حالتكم التي استقر رأيكم عليها .
وقرأ الجمهور : «مكانتكم » بالإفراد . وقرأ «مكاناتكم » بالجمع : الحسن وعاصم{[9902]} .
لما أبلغهم الله من الموعظة أقصى مَبلغ ، ونصب لهم من الحجج أسطع حجة ، وثبَّت رسوله صلى الله عليه وسلم أرسخ تثبيت ، لا جرم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يوادعهم موادعة مستقرِب النصر ، ويواعدهم ما أُعد لهم من خسر .
وعدم عطف جملة { قُل } هذه على جملة { قل حسبي الله } [ الزمر : 38 ] لدفع توهم أن يكون أمره { قُلْ حسبي الله } لقصد إبلاغه إلى المشركين نظير ترك العطف في البيت المشهور في علم المعاني :
وتظن سلمَى أنني أبغي بها *** بَدَلاً أَراها في الضلال تَهيم
لم يعطف جملة : أراها في الضلال ، لئلا يتوهم أنها معطوفة على جملة : أبغي بها بدلاً ، ولأنها انتقال من غرض الدعوة والمحاجّة إلى غرض التهديد . وابتدأ المقول بالنداء بوصف القوم لما يشعر به من الترقيق لحالهم والأسف على ضلالهم لأن كونهم قومه يقتضي أن لا يدخرهم نصحاً .
والمكانة : المكان ، وتأنيثه روعي فيه معنى البقعة ، استعير للحالة المحيطة بصاحبها إحاطة المكان بالكائن فيه . والمعنى : اعملوا على طريقتكم وحالكم من عداوتي ، وتقدم نظيره في سورة الأنعام ( 135 .
( وقرأ الجمهور { مكانتكم } بصيغة المفرد . وقرأ أبو بكر عن عاصم { مكاناتكم } بصيغة الجمع بألف وتاء .