{ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ } أي : جميع ما يقدر عليه ، مما يكيد به موسى ، فأرسل في مدائنه من يحشر السحرة الماهرين في سحرهم ، وكان السحر إذ ذاك ، متوفرا ، وعلمه علما مرغوبا فيه ، فجمع خلقا كثيرا من السحرة ، ثم أتى كل منهما للموعد ، واجتمع الناس للموعد .
فكان الجمع حافلا ، حضره الرجال والنساء ، والملأ ، والأشراف ، والعوام ، والصغار ، والكبار ، وحضوا الناس على الاجتماع ، وقالوا للناس : { هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ* لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ }
ثم حكى القرآن ما كان من فرعون بعد أن حدد موسى - عليه السلام - موعد المبارزة فقال : { فتولى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتى } .
أى : فجمع كبار سحرته من أطراف مملكته { ثُمَّ أتى } بهم فى الموعد المحدد ، ليتحدى موسى - عليه السلام - .
وإلى هنا نرى الآيات الكريمة قد حكت لنا بأسلوبها البليغ جانبا من المحاورات التى دارت بين موسى وفرعون ، وأرتنا كيف واجه موسى طغيان فرعون وغروره ، برباطة جأش ، وقوة إرادة ، ومضاء عزيمة . . .
ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى الحديث عما دار بين موسى والسحرة من محاورات . انتهت بإيمانهم واعترافهم بالحق الذى جاء به موسى من عند ربه ، قال - تعالى - : { قَالَ لَهُمْ موسى . . . } .
وهنا يسدل الستار ليرفع على مشهد المباراة :
( فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى ) . .
ويجمل السياق في هذا التعبير كل ما قاله فرعون وما أشار به الملأ من قومه ، وما دار بينه وبين السحرة من تشجيع وتحميس ووعد بالمكافأة ، وما فكر فيه وما دبر هو ومستشاروه . . يجمله في جملة : فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى . وتصور تلك الآية الواحدة القصيرة ثلاث حركات متواليات : ذهاب فرعون ، وجمع كيده ، والإتيان به .
يقول تعالى مخبرًا عن فرعون أنه لما تواعد هو بموسى{[19407]} عليه السلام ، إلى وقت ومكان معلومين ، تولى ، أي : شرع في جمع السحرة من مدائن مملكته ، كل من ينسب{[19408]} إلى سحر في ذلك الزمان . وقد كان السحر فيهم كثيرًا نافقًا جدًا ، كما قال تعالى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } [ يونس : 79 ] .
{ ثُمَّ أَتَى } أي : اجتمع الناس لميقات يوم معلوم وهو يوم الزينة ، وجلس فرعون على سرير مملكته ، واصطف له أكابر دولته ، ووقفت الرعايا يمنة ويسرة وأقبل موسى ، عليه السلام ، يتوكأ على عصاه ، ومعه أخوه هارون ، ووقف السحرة بين يدي فرعون صفوفًا ، وهو يحرضهم ويحثهم ، ويرغبهم في إجادة عملهم في ذلك اليوم ، ويتمنون عليه ، وهو يعدهم ويمنيهم ، فيقولون : { أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ{[19409]} إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } [ الشعراء : 41 ، 42 ] .
تفريع التولّي وجمع الكيد على تعيين موسى للموعد إشارة إلى أن فرعون بادر بالاستعداد لهذا الموعد ولم يُضععِ الوقت للتهيئة له .
والتولّي : الانصراف ، وهو هنا مستعمل في حقيقته ، أي انصرف عن ذلك المجلس إلى حيثُ يُرسل الرسل إلى المدائن لجمع من عُرفوا بعلم السحر ، وهذا كقوله تعالى في سورة النازعات ( 22 ، 23 ) { ثم أدبر يسعى فحشر فنادى }
ومعنى جمع الكيد : تدبير أسلوب مناظرة موسى ، وإعداد الحيل لإظهار غلبة السحرة عليه ، وإقناع الحاضرين بأنّ موسى ليس على شيء .
وهذا أسلوب قديم في المناظرات : أن يسعى المناظر جهده للتشهير ببطلان حجّة خصمه بكلّ وسائل التلبيس والتشنيع والتشهير ، ومباداته بما يفتّ في عضده ويشوش رأيه حتّى يذهب منه تدبيره .
فالجمع هنا مستعمل في معنى إعداد الرأي . واستقصاء ترتيب الأمر ، كقوله { فأجمعوا أمركم } [ يونس : 71 ] ، أي جمع رأيه وتدبيره الذي يكيد به موسى . ويجوز أن يكون المعنى فجمع أهل كيده ، أي جمع السحرة ، على حد قوله تعالى : { فجمع السحرة لميقات يوم معلوم } [ الشعراء : 38 ] .
والكَيْد : إخفاء ما به الضر إلى وقت فعله . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { إن كيدي متين } في سورة الأعراف ( 183 ) .
ومعنى { ثُمَّ أتى } ثمّ حضر الموعدَ ، وثم للمهلة الحقيقية والرتبية معاً ، لأن حضوره للموعد كان بعد مضي مهلة الاستعداد ، ولأن ذلك الحضور بعد جمع كيده أهمّ من جمع الكيد ، لأنّ فيه ظهور أثر ما أعدّه .