قوله تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولداً } ، يعني اليهود والنصارى ، ومن زعم أن الملائكة بنات الله . وقرأ حمزة و الكسائي : ( ولداً ) بضم الواو وسكون اللام ، هاهنا وفي الزخرف وسورة نوح ، ووافق ابن كثير ، و أبو عمرو ، و يعقوب في سورة نوح ، والباقون بفتح الواو واللام . وهما لغتان مثل : العرب ، والعرب ، والعجم ، والعجم .
{ 88 - 95 } { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا }
وهذا تقبيح وتشنيع لقول المعاندين الجاحدين ، الذين زعموا أن الرحمن اتخذ ولدا ، كقول النصارى : المسيح ابن الله ، واليهود : عزير ابن الله ، والمشركين : الملائكة بنات الله ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا .
ثم يستطرد السياق مرة أخرى إلى مقولة منكرة من مقولات المشركين . ذلك حين يقول المشركون من العرب : الملائكة بنات الله . والمشركون من اليهود : عزيز ابن الله . والمشركون من النصارى : المسيح ابن الله . . فينتفض الكون كله لهذه القولة المنكرة التي تنكرها فطرته ، وينفر منها ضميره :
( وقالوا : اتخذ الرحمن ولدا . لقد جئتم شيئا إدا . تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ، أن دعوا للرحمن ولدا ، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ) . .
إن جرس الألفاظ وإيقاع العبارات ليشارك ظلال المشهد في رسم الجو : جو الغضب والغيرة والانتفاض ! وإن ضمير الكون وجوارحه لتنتفض ، وترتعش وترجف من سماع تلك القولة النابية ، والمساس بقداسة الذات العلية ، كما ينتفض كل عضو وكل جارحة عندما يغضب الإنسان للمساس بكرامته أو كرامة من يحبه ويوقره .
هذه الانتفاضة الكونية للكلمة النابية تشترك فيها السماوات والأرض والجبال ، والألفاظ بإيقاعها ترسم حركة الزلزلة والارتجاف .
وما تكاد الكلمة النابية تنطلق : ( وقالوا : اتخذ الرحمن ولدا )
لما قرر تعالى في هذه السورة الشريفة عبودية عيسى ، عليه السلام ، وذكر خلقه من مريم بلا أب ، شرع في مقام الإنكار على من زعم أن له ولدا - تعالى وتقدّس وتنزه عن ذلك علوًّا كبيرًا - فقال : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ } أي : في قولكم هذا ، { شَيْئًا إِدًّا }{[19147]} قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، ومالك : أي عظيمًا .
ويقال : { إِدًّا } بكسر الهمزة وفتحها ، ومع مدها أيضا ، ثلاث لغات ، أشهرها الأولى .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُواْ اتّخَذَ الرّحْمََنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السّمَاوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقّ الأرْضُ وَتَخِرّ الْجِبَالُ هَدّاً } .
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء الكافرون بالله اتّخَذَ الرّحْمَنُ وَلَدا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئا إدّا يقول تعالى ذكره للقائلين ذلك من خلقه : لقد جئتم أيها الناس شيئا عظيما من القول منكرا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : شَيْئا إدّا يقول : قولاً عظيما .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئا إدّا يقول : لقد جئتم شيئا عظيما وهو المنكر من القول .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله شَيْئا إدّا قال : عظيما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله شَيْئا إدّا قال : عظيما .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئا إدّا قال : جئتم شيئا كبيرا من الأمر حين دعوا للرحمن ولدا .
وفي الإدّ لغات ثلاث ، يقال : لقد جئت شيئا إدّا ، بكسر الألف ، وأدّا بفتح الألف ، ومدّها ، على مثال مادّ فاعل . وقرأ قرّاء الأمصار ، وبها نقرأ ، وقد ذكر عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قرأ ذلك بفتح الألف ، ولا أرى قراءته كذلك لخلافها قراءة قرّاء الأمصار ، والعرب تقول لكلّ أمر عظيم : إدّ ، وإمر ، ونكر ومنه قوله الراجز :
قَدْ لَقِيَ الأعْدَاءُ مِنّي نُكْرَا *** دَاهِيَةٌ دَهْياءَ إدّا إمْرا