ولما كان الصبر يساعده القيام بعبادة الله{[1315]} ، والإكثار من ذكره أمره الله بذلك فقال : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } أي : أول النهار وآخره ، فدخل في ذلك ، الصلوات المكتوبات وما يتبعها من النوافل ، والذكر ، والتسبيح ، والتهليل ، والتكبير في هذه الأوقات .
ثم أرشده - سبحانه - إلى ما يعينه على الصبر والثبات . فقال : { واذكر اسم رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً . وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } .
والبكرة : أول النهار . والأصيل : آخره . والمراد : المداومة على ذكر الله - تعالى - فى كل وقت . أى : داوم - أيها الرسول الكريم - على ذكر الله - تعالى - فى أول النهار وفى آخره ، وعلى صلاة الفجر ، والظهر والعصر .
ولكن الصبر شاق ، ولا بد من الزاد والمدد المعين :
( واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ، ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا ) .
هذا هو الزاد . اذكر اسم ربك في الصباح والمساء ، واسجد له بالليل وسبحه طويلا . . إنه الاتصال بالمصدر الذي نزل عليك القرآن ، وكلفك الدعوة ، هو ينبوع القوة ومصدر الزاد والمدد . . الاتصال به ذكرا وعبادة ودعاء وتسبيحا . . ليلا طويلا . . فالطريق طويل ، والعبء ثقيل . ولا بد من الزاد الكثير والمدد الكبير . وهو هناك ، حيث يلتقي العبد بربه في خلوة وفي نجاء ، وفي تطلع وفي أنس ، تفيض منه الراحة على التعب والضنى ، وتفيض منه القوة على الضعف والقلة . وحيث تنفض الروح عنها صغائر المشاعر والشواغل ، وترى عظمة التكليف ، وضخامة الأمانة . فتستصغر ما لاقت وما تلاقي من أشواك الطريق !
إن الله رحيم ، كلف عبده الدعوة ، ونزل عليه القرآن ، وعرف متاعب العبء ، وأشواك الطريق . فلم يدع نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] بلا عون أو مدد . وهذا هو المدد الذي يعلم - سبحانه - أنه هو الزاد الحقيقي الصالح لهذه الرحلة المضنية في ذلك الطريق الشائك . . وهو هو زاد أصحاب الدعوة إلى الله في كل أرض وفي كل جيل . فهي دعوة واحدة . ملابساتها واحدة . وموقف الباطل منها واحد ، وأسباب هذا الموقف واحدة . ووسائل الباطل هي ذاتها وسائله . فلتكن وسائل الحق هي الوسائل التي علم الله أنها وسائل هذا الطريق .
والحقيقة التي ينبغي أن يعيش فيها أصحاب الدعوة إلى الله هي هذه الحقيقة التي لقنها الله لصاحب الدعوة الأولى [ صلى الله عليه وسلم ] هي أن التكليف بهذه الدعوة تنزل من عند الله . فهو صاحبها . وأن الحق الذي تنزلت به لا يمكن مزجه بالباطل الذي يدعو إليه الآثمون الكفار . فلا سبيل إلى التعاون بين حقها وباطلهم ، أو الالتقاء في منتصف الطريق بين القائم على الحق والقائمين على الباطل . فهما نهجان مختلفان ، وطريقان لا يلتقيان . فأما حين يغلب الباطل بقوته وجمعه على قلة المؤمنين وضعفهم ، لحكمة يراها الله . . فالصبر حتى يأتي الله بحكمه . والاستمداد من الله والاستعانة بالدعاء والتسبيح - ليلا طويلا - هي الزاد المضمون لهذا الطريق . .
. . إنها حقيقة كبيرة لا بد أن يدركها ويعيش فيها رواد هذا الطريق . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * وَمِنَ اللّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً * إِنّ هََؤُلاَءِ يُحِبّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } .
يقول تعالى ذكره : وَاذْكُرْ يا محمد اسْمَ رَبّكَ فادعه به بكرة في صلاة الصبح ، وعشيا في صلاة الظهر والعصر وَمِنَ اللّيْلِ فاسْجُدْ لَهُ يقول : ومن الليل فاسجد له في صلاتك ، فسبحه ليلاً طويلاً ، يعني : أكثر الليل ، كما قال جلّ ثناؤه : قُمِ اللّيْلَ إلاّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أو زِدْ عَلَيْهِ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَمِنَ اللّيْلِ فاسْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً يعني : الصلاة والتسبيح .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَاذْكُرْ اسْمَ رَبّكَ بُكْرَةً وَأصِيلاً قال : بكرة : صلاة الصبح وأصيلاً صلاة الظهر الأصيل .
أي أقْبِلْ على شأنك من الدعوة إلى الله وذِكر الله بأنواع الذكر . وهذا إرشاد إلى ما فيه عون له على الصبر على ما يقولون .
والمراد بالبُكرة والأصيل استغراق أوقات النهار ، أي لا يصدك إعراضهم عن معاودة الدعوة وتكريرها طرفي النهار . ويدخل في ذكر الله الصلوات مثل قوله { وأقم الصلاة طرفي النهار وزُلَفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } [ هود : 114 ، 115 ] . وكذلك النوافل التي هي من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم بين مفروض منها وغير مفروض . فالأمر في قوله : { واذكر } مستعمل في مطلق الطلب من وجوب ونفل .
وذِكر اسم الرب يشمل تبليغ الدعوة ويشمل عبادة الله في الصلوات المفروضة والنوافل ويشمل الموعظة بتخويف عقابه ورجاء ثوابه .
وقوله : { بكرة وأصيلا } يشمل أوقاتَ النهار كلها المحدودَ منها كأوقات الصلوات وغيرَ المحدود كأوقات النوافل ، والدعاء والاستغفارِ .