وقوله : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } تعليل لعدم استطاعة الصبر معه .
أى : وكيف تصبر يا موسى على أمور ستراها منى . هذه الأمور ظاهرها أنها منكرات لا يصح السكوت عليها ، وباطنها لا تعلمه لأن الله لم يطلعك عليه ؟
فالخبر بمعنى العلم . يقال : خبر فلان الأمر يخبره : أى : علمه . والاسم الخبر ، وهو العلم بالشئ ، ومنه الخبير ، أى : العالم .
وكأن الخضر يريد بهذه الجملة الكريمة أن يقول لموسى : إنى واثق من أنك لن تستطيع معى صبرا ، لأن ما سأفعله سيصطدم بالأحكام الظاهرة ، وبالمنطق العقلى ، وبغيرتك المعهودة فيك ، وأنا مكلف أن أفعل ما أفعل ، لأن المصلحة الباطنة ، فى ذلك ، وهى تخفى عليك .
ولكن علم الرجل ليس هو العلم البشري الواضح الأسباب القريب النتائج ، إنما هو جانب من العلم اللدني بالغيب أطلعه الله عليه بالقدر الذي أراده ، للحكمة التي أرادها . ومن ثم فلا طاقة لموسى بالصبر على الرجل وتصرفاته ولو كان نبيا رسولا . لأن هذه التصرفات حسب ظاهرها قد تصطدم بالمنطق العقلي ، وبالأحكام الظاهرة ، ولا بد من إدراك ما وراءها من الحكمة المغيبة ؛ وإلا بقيت عجيبة تثير الاستنكار . لذلك يخشى العبد الصالح الذي أوتي العلم اللدني على موسى ألا يصبر على صحبته وتصرفاته :
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىَ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ سَتَجِدُنِيَ إِن شَآءَ اللّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } .
يقول عزّ ذكره مخبرا عن قول العالم لموسى : وكيف تصبر يا موسى على ما ترى مني من الأفعال التي لا علم لك بوجوه صوابها ، وتقيم معي عليها ، وأنت إنما تحكم على صواب المصيب وخطأ المخطىء بالظاهر الذي عندك ، وبمبلغ علمك ، وأفعالي تقع بغير دليل ظاهر لرأي عينك على صوابها ، لأنها تُبتدأ لأسباب تحدث آجلة غير عاجلة ، لا علم لك بالحادث عنها ، لأنها غيب ، ولا تحيط بعلم الغيب خبرا يقول علما ، قال : سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللّهُ صَابِرا على ما أرى منك وإن كان خلافا لما هو عندي صواب وَلا أعْصِي لَكَ أمْرا يقول : وأنتهي إلى ما تأمرني ، وإن لم يكن موافقا هواي .
جملة { وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً } في موضع الحال من اسم ( إن ) أو من ضمير { تستطيع } ، فالواو واو الحال وليست واو العطف لأن شأن هذه الجملة أن لا تعطف على التي قبلها لأن بينهما كمال الاتصال إذ الثانية كالعلة للأولى . وإنما أوثر مجيئها في صورة الجملة الحالية ، دون أن تفصل عن الجملة الأولى فتقع علة مع أن التعليل هو المراد ، للتنبيه على أن مضمونها علة ملازمة لِمضمون التي قبلها إذ هي حال من المسند إليه في الجملة قبلها .
و ( كيف ) للاستفام الإنكاري في معنى النفي ، أي وأنت لا تصبر على ما لم تحط به خُبراً .
والخُبر بضم الخاء وسكون الباء : العِلم . وهو منصوب على أنه تمييز لنسبة الإحاطة في قوله : { ما لم تحط به } ، أي إحاطة من حيث العلم .
والإحاطةُ : مجاز في التمكن ، تشبيهاً لقوة تمكن الاتصاف بتمكن الجسم المحيط بما أحاط به .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول عزّ ذكره مخبرا عن قول العالم لموسى: وكيف تصبر يا موسى على ما ترى مني من الأفعال التي لا علم لك بوجوه صوابها، وتقيم معي عليها، وأنت إنما تحكم على صواب المصيب وخطأ المخطئ بالظاهر الذي عندك، وبمبلغ علمك، وأفعالي تقع بغير دليل ظاهر لرأي عينك على صوابها، لأنها تُبتدأ لأسباب تحدث آجلة غير عاجلة، لا علم لك بالحادث عنها، لأنها غيب، ولا تحيط بعلم الغيب "خبرا "يقول علما. قال: "سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللّهُ صَابِرا" على ما أرى منك وإن كان خلافا لما هو عندي صواب.
"وَلا أعْصِي لَكَ أمْرا" يقول: وأنتهي إلى ما تأمرني، وإن لم يكن موافقا هواي.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وكيف تَصبِرُ على ما لم تُحِطْ به خُبْراً} أي ما لم تَعْلَمْ عِلماً...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وكيف تصبر على} ما تراه خطأً، ولم تخبر بوجه الحكمة فيه ولا طريق الصواب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان المقام صعباً جداً لأنه بالنسبة إلى أوامر الله تعالى، بينه على وجه أبلغ من نفي الأخص، وهو الصبر البليغ، بالتعجيب من مطلق الصبر معتذراً عن موسى في الإنكار، وعن نفسه في الفعل، بأن ذلك بالنسبة إلى الظاهر والباطن، فقال عاطفاً على ما تقديره: فكيف تتبعني الاتباع البليغ: {وكيف تصبر} يا موسى {على ما لم تحط به خبراً} أي من جهة العلم به ظاهراً و باطناً، فأشار بالإحاطة إلى أنه كان يجوز أن يكون على صواب، ولكن تجويزاً لا يسقط عنه وجوب الأمر، ويجوز أن يكون هذا تعليلاً لما قبله، فيكون الصبر الثاني هو الأول، والمعنى أنك لا تستطيع الصبر الذي أريده لأنك لا تعرف فعلي على ما هو عليه فتراه فاسداً...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
إيذاناً بأنه عليه السلام يَتولّى أموراً خفيّةَ المراد مُنكَرةَ الظواهر والرجلُ الصالح لاسيما صاحب الشريعة لا يتمالك أن يَشمئزّ عند مشاهدتها وكأنه عَلِمَ مع ذلك حِدّةَ موسى عليه السلام ومَزيدَ غَيْرتِه التي أَوْصَلَتْه إلى أنْ أَخَذَ برأس أخيه يَجُرُّهُ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و (كيف) للاستفام الإنكاري في معنى النفي، أي وأنت لا تصبر على ما لم تحط به خُبراً...
والخُبْر -بضم الخاء وسكون الباء-: العِلم...
والإحاطةُ: مجاز في التمكن، تشبيهاً لقوة تمكن الاتصاف بتمكن الجسم المحيط بما أحاط به.
فلا تحزن لأني قلت: لن تستطيع معي صبراً؛ لأن التصرفات التي ستعترض عليها ليس لك خبر بها، وكيف تصبر على شيء لا علم لك به؟ ونلحظ في هذا الحوار بين موسى والخضر عليهما السلام أدب الحوار واختلاف الرأي بين طريقتين: طريقة الأحكام الظاهرية، وطريقة ما خلف الأحكام الظاهرية، وأن كلاً منهما يقبل رأي الآخر ويحترمه ولا يعترض عليه أو ينكره...
لقد تجلى في قول الخضر: {وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً}: مظهر من مظاهر أدب المعلم مع المتعلم، حيث احترم رأيه، والتمس له العذر إن اعترض عليه، فلكل منهما مذهبه الخاص، ولا يحتج بمذهب على مذهب آخر...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} مما قد تَرى فيه انحرافاً عن الموازين، التي تَزِنُ بها الأمورَ على أساسِ ما تراه قاعدةً للشرعيّة أو ما تتصوَّره منسجماً مع طبيعة الواقع الذي تَخضَع في تقييمكَ له لرؤيةٍ معينة، الأمرُ الذي يَجعلك تنتفِض وتَحتجُّ وتستثير فضولَك لتَطرح السؤال تِلْوَ الآخر لتتعرَّف على طبيعة المسألة، أو لتُسَجِّل عليها نقطةَ احتجاجٍ. وهذا أمرٌ لا غرابة فيه، لأن الإنسان الذي رُكِّب تكوينُه على أساس غريزة الفضول، في ما أراده اللهُ من إثارة قَلَقِ المعرفة في ذاته كسبيلٍ من سُبل الحصول عليها، أو الذي يَملك قاعدةً معينةً للتفكير قد تَختلف عن غيره، لا بدّ له من أن يعبِّر عن موقفه بطريقةٍ متوتّرةٍ لا تَملك الصبرَ على ما يواجهه من علامات الاستفهام، أو على ما يراه من مظاهر الانحراف... ولكن موسىعليه السلام يُصِرُّ على الحصول على شَرَفِ مرافَقتِه، لأن الله يريد له ذلك، فهو مأمورٌ باتبّاعِه...