وقوله : تاللّهِ إنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ يقول : فلما رأى قرينه في النار قال : تالله إن كدت في الدنيا لتهلكني بصدّك إيايّ عن الإيمان بالبعث والثواب والعقاب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ قوله : إنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ قال : لتهلكني ، يقال منه : أردَى فلان فلانا : إذا أهلكه ، ورديَ فلانٌ : إذا هلك ، كما قال الأعشى .
أَفِي الطّوْفِ خِفْتِ عَليّ الرّدَى *** وكَمْ مِنْ رَدٍ أهْلَهُ لَمْ يَرِمْ
أي لتهلكني بإغوائك ، والردى الهلاك ومنه قول الأعشى : [ المتقارب ]
أفي الطوف خفت علي الردى . . . وكم من رد أهله لم يرم{[9860]}
وفي مصحف عبد الله بن مسعود «إن كدت لتُغوين » بالواو من الغي ، وذكرها أبو عمرو الداني بالراء من الإغراء والتاء في هذا كله مضمومة .
وجملة { قالَ تالله إن كِدتَ لتُرْدِينِ } مستأنفة استئنافاً بيانيّاً لأن وصف هذه الحالة يثير في نفس السامع أن يسأل : فماذا حصل حين اطلع ؟ فيجاب بأنه حين رأى قرينه أخذ يوبخه على ما كان يحاوله منه حتى كاد أن يلقيه في النار مثله . وهذا التوبيخ يتضمن تنديمه على محاولة إرجاعه عن الإِسلام .
والقَسَم بالتاء من شأنه أن يقع فيما جواب قسَمِه غريب ، كما تقدم في قوله تعالى : { قالوا تاللَّه لقد علمتم } في سورة [ يوسف : 73 ] ، وقوله : { وتاللَّهِ لأكيدن أصنامكم } في سورة [ الأنبياء : 57 ] . ومحل الغرابة هو خلاصهُ من شبكة قرينه واختلاف حال عاقبتيهما مع ما كانا عليه من شدة الملازمة والصحبة وما حفّه من نعمة الهداية وما تورط قرينه في أوحال الغواية .
و { إنْ } مخففة من الثقيلة واتصل بها الفعل الناسخ على ما هو الغالب في أحوالها إذا أُهملت . واللام الداخلة على خبر كاد هي الفارقة بين { إن } المخففة والنافية . و « ترديني » تُوقِعُنِي في الرَّدَى وهو الهلاك ، وأصل الردى : الموت ثم شاعت استعارته لسوء الحال تشبيهاً بالموت لما شاع من اعتبار الموت أعظم ما يصاب به المرء .
والمعنى : أنك قاربت أن تفضي بي إلى حال الردى بإلحاحك في صرفي عن الإِيمان بالبعث لفرط الصحبة . ولولا نعمة هداية الله وتثبيته لكنت من المحضَرين معك في العذاب .
وقرأ الجمهور { لَتُرْدِينِ } بنون مكسورة في آخره دون ياء المتكلم على التخفيف ، وهو حذف شائع في الاستعمال الفصيح وهو لغة أهل نجد .
وكتب في المصاحف بدون ياء . وقرأه ورش عن نافع بإثبات الياء ولا يُنافي رسم المصحف لأن كثيراً من الياءات لم تكتب في المصحف ، وقرأ القراء بإثباتها فإن كتّاب المصحف قد حذفوا مدوداً كثيرة من ألفات وياءات .
والمحضرون : أريد بهم المحضرون في النار ، أي لكنت من المحضرين معك للعذاب . وقد كثر إطلاق المُحْضَر ونحوه على الذي يُحضر لأجل العقاب . وقد فسر بعض المفسرين القرين هنا بالشيطان الذي يلازم الإِنسان لإِضلاله وإغوائه . وطريقُ حكاية تصدّي القائل من أهل الجنة لإِخبار أهل مجلسه بحاله يبطل هذا التفسير لأنه لو كان المراد الشيطان لكان إخباره به غير مفيد فما من أحد منهم إلا كان له قرين من الشياطين ، وما منهم إلا عالم بأن مصير الشياطين إلى النار .
وقيل : نزلت في شريكين هما المشار إليهما في قوله تعالى : { واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب } في سورة [ الكهف : 32 ] .
وروي عن عطاء الخراساني : أنها نزلت في أخوين مؤمن وكافر ، كانا غنيين ، وكان المؤمن ينفق ماله في الصدقات وكان الكافر ينفق ماله في اللذات . وفي هذه الآية عبرة من الحذر من قرناء السوء ووجوب الاحتراس مما يدعون إليه ويزيّنونه من المهالك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{تالله إن كدت لتردين} لتغوين، فأنزل منزلك في النار.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"تاللّهِ إنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ" يقول: فلما رأى قرينه في النار قال: تالله إن كدت في الدنيا لتهلكني بصدّك إيايّ عن الإيمان بالبعث والثواب والعقاب.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(تالله) القسم على وجه التعجب، وإنما كان كذلك، لأن التاء بدل من الواو في القسم على وجه النادر، ولذلك اختصت باسم الله ليدل على المعنى النادر.
" لتردين ": لتهلكني كهلاك المتردي من شاهق، ومنه قوله "وما يغني عنه ماله إذا تردى "في النار.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
إنك قاربت أن تهلكني وتجعلني في أردأ ما يكون من الأماكن، وفي هذا التأكيد غاية الترغيب في الثبات لمن كان قريباً من التزلزل، وفي المباعدة لقرناء السوء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قاربت أن تفضي بي إلى حال الردى بإلحاحك في صرفي عن الإِيمان بالبعث لفرط الصحبة.
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.