( قالوا : كذلك قال ربك ، إنه هو الحكيم العليم ) . .
وكل شيء يكون إذا قيل له : كن . وقد قال الله . فماذا بعد قوله ? إن الألفة والعادة تقيدان الإدراك البشري ، وتحدان من تصوراته . فيدهش إذ يرى ما يخالف المألوف له ؛ ويعجب كيف يكون ؛ وقد يتبجح فينكر أن يكون ! والمشيئة المطلقة ماضية في طريقها لا تتقيد بمألوف البشر الصغير المحدود ؛ تبدع ما تشاء ، بغير ما حدود أو قيود !
{ قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } {[27445]} أي : عليم بما تستحقون من الكرامة ، حكيم في أقواله وأفعاله .
قال الله مخبرا عن إبراهيم ، عليه السلام : { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } [ هود : 74 - 76 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبّكِ إِنّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوَاْ إِنّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىَ قَوْمٍ مّجْرِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل ضيف إبراهيم لزوجته إذ قالت لهم ، وقد بشّروها بغلام عليم : أتلد عجوز عقيم قالُوا كَذلِكِ قالَ رَبّكِ يقول : هكذا قال ربك : أي كما أخبرناك وقلنا لك : إنّهُ هُوَ الْحَكِيمُ العَلِيمُ والهاء في قوله : «إنه » من ذكر الربّ ، هو الحكيم في تدبيره خلقه ، العليم بمصالحهم ، وبما كان ، وبما هو كائن .
قول الملائكة { كذلِك قال ربكِ } الإشارة إلى الحادث وهو التبشير بغلام . والكاف للتشبيه ، أي مثل قولنا : قال ربك فنحن بلّغنا ما أمرنا بتبليغه .
وجملة { إنه هو الحكيم العليم } تعليل لِجملة { كذلك قال ربك } المتقضية أن الملائكة ما أخبروا إبراهيم إلا تبليغاً من الله وأن الله صادق وعده وأنه لا موقع لتعجب امرأة إبراهيم لأن الله حكيم يدبر تكوين ما يريده ، وعليم لا يخفى عليه حالها من العجز والعقم .
وهذه المحاورة بين الملائكة وسارة امرأة إبراهيم وقعَ مثلها بينهم وبين إبراهيم كما قُصّ في سورة الحجر ، فحُكي هنا ما دار بينهم وبين سارة ، وحكي هناك ما دار بينهم وبين إبراهيم والمَقام واحد ، والحالة واحدة كما بُيّن في سورة هود ( 72 ) { قالت يا ويلتى ءالِدُ وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إنّ هذا لشيء عجيب } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قالوا} قال جبريل، صلى الله عليه: {كذلك} يعني هكذا {قال ربك} ستلدين غلاما {إنه هو الحكيم} حكم أمر الولد في بطن سارة {العليم} بخلقه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل ضيف إبراهيم لزوجته إذ قالت لهم، وقد بشّروها بغلام عليم: أتلد عجوز عقيم" قالُوا كَذلِكِ قالَ رَبّكِ "يقول: هكذا قال ربك: أي كما أخبرناك وقلنا لك.
"إنّهُ هُوَ الْحَكِيمُ العَلِيمُ" والهاء في قوله: «إنه» من ذكر الربّ، هو الحكيم في تدبيره خلقه، العليم بمصالحهم، وبما كان، وبما هو كائن.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
: {قالوا كذلك قال ربك} أي على علم بالحال التي أنت بُشّرت بذلك لا عن جهل. وقوله تعالى: {إنه هو الحكيم العليم} أي حكيم واضع الأمر في موضعه {العليم} بمصالح الأمور وعواقبها...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{كَذَلِكِ} مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به {قَالَ رَبُّكِ} أي إنما نخبرك عن الله، والله قادر على ما تستبعدين.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم} فيكون قوله عز وجل حقاً وفعله سبحانه متقناً لا محالة، وهذه المفاوضة لم تكن مع سارة فقط بل كانت مع إبراهيم أيضاً حسبما تقدم في سورة الحجر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكل شيء يكون إذا قيل له: كن. وقد قال الله. فماذا بعد قوله؟...
والمشيئة المطلقة ماضية في طريقها لا تتقيد بمألوف البشر الصغير المحدود؛ تبدع ما تشاء، بغير ما حدود أو قيود!
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والتعبير ب «الحكيم» و «العليم» إشارة إلى أنّه لا يحتاج إلى الإخبار بكونك امرأة عقيماً عجوزاً وبعلك شيخاً، فالله يعرف كلّ هذه الأمور، وإذا لم يرزقك حتّى الآن ولداً وأراد أن يهبك في هذه السنّ ولداً فإنّما هو لحكمته!
كثيراً ما يظنّ الممسكون البخلاء أنّ السخاء والنظرة البعيدة ضرب من الإفراط والإسراف والتبذير، والتشدّد وضيق النظرة نوع من الزهد والتدبير!! والقرآن يكشف عن هذه الحقيقة في هذه الآيات والآيات التي مرّت في سورة هود، وهي أنّ الضيافة بسعتها وبشكلها المعقول ليست مخالفةً للشرع، بل طالما قام النّبي بمثل هذا العمل، فهو دليل على أنّ هذا الأمر محبوب، وبالطبع فإنّ ضيافةً كهذه الضيافة التي تستوعب الآخرين إنّما هي سنّة الكرماء الشرفاء. والله سبحانه لم يحرّم التمتّع بمواهب الحياة وكون الإنسان ذا مال حلال كما كان إبراهيم ـ فلا ضير أن يتصرّف بماله كما فعل إبراهيم (عليه السلام) أيضاً. فإبراهيم مع كونه ثريّاً ذا مال لم يغفل عن ذكر الله لحظة واحدة ولم يكن قلبه أسير ثروته ولم يجعل منافعه منحصرة به وحده...