وهنا أدرك هؤلاء الظالمون ، أن الأمر جد لا هزل ، وأن العذاب نازل بهم لا محالة ، وأن القائلين لهم لا تركضوا ، إنما يتهكمون بهم .
فأخذ أولئك الضالمون يتفجعون ويتحسرون قائلين : { ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } .
والويل : الفضيحة والبلية والمصيبة التى يعقبها الهلاك . وهى كلمة جزع وتحسر .
وتستعمل عندما تحيط بالإنسان داهية عظيمة ، وكأن المتحسر لنزول مصيبة به ، ينادى ويليته ويطلب حضورها بعد تنزيلها منزلة من يُنَادَى .
أى : قالوا عندما تيقنوا أن الهلاك نازل بهم : يا هلاكنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا ، مستوجبين للعذاب . بسبب إعراضنا عن الحق ، وتكذيبنا لمن جاء به .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ يَوَيْلَنَآ إِنّا كُنّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتّىَ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قال هؤلاء الذين أحلّ الله بهم بأسه بظلمهم لما نزل بهم بأس الله : يا ويلنا إنا كنا ظالمين بكفرنا بربنا فما زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ يقول : فلم تزل دعواهم ، حين أتاهم بأس الله ، بظلمهم أنفسهم : يا وَيْلَنا إنّا كُنّا ظالِمِينَ حتى قتلهم الله ، فحصدهم بالسيف كما يُحْصَد الزرع ويستأصل قَطْعا بالمناجل . وقوله : خامِدِينَ يقول : هالكين قد انطفأت شرارتهم ، وسكنت حركتهم ، فصاروا همودا كما تخمد النار فتطفأ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ . . . الاَية . فلما رأوا العذاب وعاينوه لم يكن لَهُمْ هِجّيرَي إلا قولهم : يا وَيْلَنا إنّا كُنّا ظالِمِينَ حتى دمّر الله عليهم وأهلكهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : قالُوا يا وَيْلَنا إنّا كُنّا ظالِمِينَ فمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حتى جَعَلْناهُمْ حَصِيدا خامِدِينَ يقول : حتى هلكوا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال ابن عباس : حَصِيدا الحصاد . خامدين خمود النار إذا طفئت .
حدثنا سعيد بن الربيع ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : إنهم كانوا أهل حصون ، وإن الله بعث عليهم بختنصر ، فبعث إليهم جيشا فقتلهم بالسيف ، وقتلوا نبيّا لهم فحُصِدوا بالسيف وذلك قوله : فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حتى جَعَلْناهُمْ حَصِيدا خامِدِينَ بالسيف .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء الذين أحلّ الله بهم بأسه بظلمهم لما نزل بهم بأس الله: يا ويلنا إنا كنا ظالمين بكفرنا بربنا.
"فما زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ" يقول: فلم تزل دعواهم، حين أتاهم بأس الله، بظلمهم أنفسهم: "يا وَيْلَنا إنّا كُنّا ظالِمِينَ" حتى قتلهم الله، فحصدهم بالسيف كما يُحْصَد الزرع ويستأصل قَطْعا بالمناجل.
وقوله: "خامِدِينَ" يقول: هالكين قد انطفأت شرارتهم، وسكنت حركتهم، فصاروا همودا كما تخمد النار فتطفأ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين} يقرون يومئذ بالظلم، لكن لا ينفعهم ذلك، ويندمون على سوء صنيعهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
يا ويلنا إنا كنا ظالمين "لنفوسنا بترك معرفة الله وتصديق أنبيائه، وركوب معاصيه.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان كأنه قيل: بما أجابوا هذا المقال؟ قيل {قالوا} حين لا نفع لقولهم عند نزول البأس: {يا ويلنا} إشارة إلى أنه حل بهم لأنه لا ينادي إلا القريب، وترفقاً له كما يقول الشخص لمن يضربه: يا سيدي -كأنه يستغيث به ليكف عنه، وذلك غباوة منهم، وعمى عن الذي أحله بهم، لأنهم كالبهائم لا ينظرون إلا السبب الأقرب؛ ثم عللوا حلوله بهم تأكيداً لترفقهم بقولهم: {إنا كنا} أي جبلة لنا وطبعاً {ظالمين} حيث كذبنا الرسل، وعصينا أمر ربنا، فاعترفوا حيث لم ينفعهم الاعتراف لفوات محله.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {قالوا يا ويلنا} إن جَعَلْتَ جملة {لا تركضوا} معترضة على ما قررتُه آنفاً تكون هذه مستأنفة استئنافاً بيانياً عن جملة {إذا هم منها يركضون} كأن سائلاً سأل عما يقولونه حين يسرعون هاربين لأن شأن الهارب الفزِع أن تصدر منه أقوال تدل على الفزع أو الندم عن الأسباب التي أحلت به المخاوف فيجاب بأنهم أيقنوا حين يرون العذاب أنهم كانوا ظالمين فيُقرون بظلمهم ويُنشئون التلهف والتندم بقولهم {يا ويلنا إنا كنا ظالمين}.
وإن جَعَلتَ جملة {لا تركضوا} مقول قول محذوف على ما ذهب إليه المفسرون كانت جملة {قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين} جواباً لقول من قال لهم {لا تركضوا} على وجه التهكم بهم ويكون فصل الجملة لأنها واقعة في موقع المحاورة كما بيّناه غير مرة، أي قالوا: قد عرفنا ذنبنا وحق التهكم بنا. فاعترفوا بذنبهم. قال تعالى: {فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير} في سورة [الملك: 11].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ومعنى ندائهم بهلاكهم الذي استحقوه هو أنه شعور باستحقاقهم له، وإضافة الويل إليهم، لأنهم سببه، وقد استحقوه، وقرروا ذلك بصريح اللفظ بقول: {إنا كنا ظالمين}، أكدوا ظلمهم ب"إن" المؤكدة، وب "كنا" لأنها تدل على استمرار طلبهم، ووصفوا أنفسهم بالظلم، وكان ظلمهم من نواح كثيرة، فهم كفروا برسالة النبيين وجحدوها وعاندوهم، وآذوا المؤمنين، وكفروا بأنعم الله ولم يقوموا بحق شكرها، وهذا ظلم بيّن، وأشركوا في عبادتهم، وإن الشرك لظلم عظيم، وعاثوا في الأرض فسادا، وأكلوا أموال الناس بالباطل وغير ذلك مما يجئ تباعا للكفر بالأنبياء. وإنهم يستمرون على الشعور بالويل وندائه والإحساس بالظلم إلى الموت. ولذا قال تعالى: {فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين}.