ومرة أخرى يذكره الخضر بالشرط الذى اشترطه عليه . وبالوعد الذى قطعه على نفسه ، فيقول له : { أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } .
وفى هذه المرة لا يكتفى الخضر بقوله : { أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ . . } بل يضيف لفظ لك ، زيادة فى التحديد والتعيين والتذكير .
أى : ألم أقل لك أنت يا موسى لا لغيرك على سبيل التأكيد والتوثيق : إنك لن تستطيع معى صبرا ، لأنك لم تحط علما بما أفعله .
كان جواب الخضر هذا على نسق جوابه السابق إلا أنه زاد ما حكي في الآية بكلمة { لَكَ } وهو تصريح بمتعلّق فعل القول . وإذ كان المقول له معلوماً من مقام الخطاب كان في التصريح بمتعلق فعل القول تحقيق لوقوع القول وتثبيت له وتقوية ، والداعي لذلك أنه أهمل العمل به .
واللام في قوله { لَكَ } لام التبليغ ، وهي التي تدخل على اسم أو ضمير السامع لقولٍ أو ما في معناه ، نحو : قلت له ، وأذنت له ، وفسّرت له ؛ وذلك عندما يكون المقول له الكلام معلوماً من السياق فيكون ذكر اللام لزيادة تقوي الكلام وتبليغه إلى السامع ، ولذلك سميت لام التبليغ . ألا ترى أن اللام لم يحتج لذكره في جوابه أول مرة { ألم أقل أنّك لن تستطيع معي صبراً ، فكان التقرير والإنكار مع ذكر لام تعدية القول أقوى وأشدّ .
وهنا لم يعتذر موسى بالنسيان : إما لأنه لم يكن نَسِي ، ولكنه رجّح تغيير المنكر العظيم ، وهو قتل النفس بدون موجب ، على واجب الوفاء بالالتزام ؛ وإما لأنّه نسي وأعرض عن الاعتذار بالنسيان لسماجة تكرر الاعتذار به ، وعلى الاحتمالين فقد عدل إلى المبادرة باشتراط ما تطمئن إليه نفس صاحبه بأنه إن عاد للسؤال الذي لا يبتغيه صاحبه فقد جعل له أن لا يصاحبه بعدَه .
وفي الحديث عن النبي : كانت الأولى من موسى نسياناً ، والثانية شرطاً ، فاحتمل كلام النبي الاحتمالين المذكورين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال} الخضر لموسى، عليهما السلام:
{ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا}، وإنما قال: {ألم أقل لك}؛ لأنه كان قد تقدم إليه قبل ذلك بقوله: {إنك لن تستطيع معي صبرا}، على ما ترى من العجائب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال العالم لموسى "ألَمْ أقُلْ لكَ إنّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ مَعِيَ صَبْرا "على ما ترى من أفعالي التي لم تُحط بها خبرا.
قال موسى له: "إنْ سألْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها" يقول: بعد هذه المرّة، "فَلا تُصَاحِبْنِي" يقول: ففارقني، فلا تكن لي مصاحبا، "قَدَ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّي عُذْرا" يقول: قد بلغت العذر في شأني...
حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا بدل بن المحبر، قال: حدثنا عباد بن راشد، قال: حدثنا داود، في قول الله عزّ وجلّ "إنْ سألْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّي عُذْرا" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسْتَحيْا فِي اللّهِ مُوسَى عِنْدَها».
حدثني عبد الله بن أبي زياد، قال: حدثنا حجاج بن محمد، عن حمزة الزيات، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه، فقال ذات يوم: «رَحْمَةُ اللّهِ عَلَيْنا وَعلى مُوسَى، لَوْ لَبِثَ مَعَ صَاحِبِهِ لأَبْصَرَ العَجَبَ، وَلَكِنّهُ قالَ: إنْ سألْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّي عُذْرا».
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلتَ: ما معنى زيادةِ {لَكَ}؟ قلتُ: زيادةُ المكافَحةِ بالعِتاب على رفْض الوَصيّة، والوَسْمِ بقلة الصبر عند الكَرّة الثانية...
وأنه تعالى حَكى عن ذلك العالِم أنه ما زاد على أن ذَكّرَه ما عاهَده عليه فقال: {ألَمْ أَقُلْ لَكَ إِنّكَ لن تَستطيعَ مَعِي صَبْراً} وهذا عَيْنُ ما ذَكَره في المسألة الأولى إلا أنه زاد ههنا لفظةَ "لكَ "لأن هذه اللفظة تؤكِّد التّوبيخَ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي هذه المَرّة يُعَيِّنُ أنه قال لَهُ: (أَلَمَ ْأقُلْ لَكَ؟) لكَ أنتَ على التّعْيِين والتّحْديد. فلَمْ تَقتنِع وطَلبتَ الصُّحْبةَ وقَبِلْتَ الشّرْط...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كان جوابُ الخضرِ هذا على نَسَقِ جوابِه السابق إلا أنه زاد ما حُكِيَ في الآية بكلمة {لَكَ} وهو تصريحٌ بمتعلّق فعلِ القول. وإذ كان المَقولُ له معلوماً من مَقام الخِطاب كان في التّصريح بمتعلّق فعلِ القولِ تحقيقٌ لوقوع القول وتثبيتٌ له وتقويةٌ، والداعي لذلك أنه أَهمَل العملَ به. واللام في قوله {لَكَ} لامُ التبليغ، وهي التي تَدخُل على اسمِ أو ضميرِ السامع لقولٍ أو ما في معناه، نحو: قُلْتُ لَه، وأَذِنْتُ لَه، وفَسَّرْتُ لَه؛ وذلك عندما يكون المَقولُ له الكلامُ معلوماً من السياق فيكون ذِكر اللام لزيادةِ تَقَوِّي الكلام وتبليغِه إلى السامع، ولذلك سُمّيت لامَ التبليغ. ألا ترى أن اللام لم يحتَجْ لذِكره في جوابه أول مرة {ألم أقل أنّك لن تستطيع معي صبراً، فكان التقريرُ والإنكارُ مع ذِكر لام تعدية القولِ أقْوى وأشَدَّ. وهنا لم يعتذر موسى بالنسيان: إما لأنه لم يكن نَسِي، ولكنه رَجَّح تغييرَ المنكَر العظيم، وهو قتْل النّفْس بدون موجِبٍ، على واجب الوفاء بالاِلتزام؛ وإما لأنّه نَسِيَ وأَعْرَض عن الاعتذار بالنسيان لسَمَاجَة تَكَرُّرِ الاعتذار به، وعلى الاحتمالين فقد عَدَل إلى المبادرة باشتراط ما تَطْمَئنّ إليه نفسُ صاحبِه بأنه إن عاد للسؤال الذي لا يَبتغيه صاحبُه فقد جَعَلَ له أنْ لا يُصاحِبَه بعدَه. وفي الحديث عن النبي: كانت الأولى من موسى نِسياناً، والثانية شَرْطاً، فاحتَمل كلامُ النبي الاحتماليْن المذكوريْن...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ولماذا لم تَستفِدْ من التجربة الأولى التي عرفتَ فيها خطأَ موقفِك في اهتزاز مشاعرك أمام الحدث الذي لم تَفهمْه، ولم تُفكِّر بأنّ من الممكن أن يكون له وجهٌ آخرُ، لا سيما وأنك لا تجد في مَلامِحي شخصيةَ الإنسانِ الشِّرير الذي يريد أن يؤذيَ الناسَ ويوقِعَهم في ضررٍ كبيرٍ؟...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تَذكَّر موسى تعهُّدَه فانتبَه إلى ذلك وهو خَجِلٌ، حيث أخلَّ بالعهد مرَّتين ولو بسبب النسيان وبدأ تدريجياً يَشعُر بصِدق عبارة الأستاذ في أنَّ موسى لا يستطيع تحمُّل أعمالِه، لذا فلا يطيق رُفْقتَه كما قالَ لهُ عندما عَرض عليه موسى الرُّفْقة، لذا فقد بادَر إلى الاعتذار وقال: إِذا اعترضتُ عليك مرّة أُخرى فلا تُصاحِبْني وأنت في حِلٍّ مِنّي: (قال إن سَألتُكَ عن شيءٍ بعدَها فلا تُصاحِبْني قد بَلَغْتَ مِن لَدُنِي عُذْراً). صيغةُ العُذْرِ هنا تدل على إنصاف موسى (عليه السلام) ورؤيتِه البعيدة للأُمور، وتُبيّن أنَّهُ (عليه السلام) كانَ يستسلم للحقائق ولو كانت مُرّة؛ بعبارة أُخرى: إنّ الجملة توضح وبعد ثلاثِ مراحلَ للاختبار أنَّ مهمّة هذين الرَّجلين كانت مُختلفة...