ثم حكى - سبحانه - ما رد به المجرمون على أصحاب اليمين فقال : { قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين . وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين . وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين . وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين . حتى أَتَانَا اليقين } . أى : قال المجرمون لأصحاب اليمين : الذى أدى بنا إلى الإِلقاء فى سقر ، أننا فى الدنيا لم نقم بأداء الصلاة الواجبة علينا ، ولم نعط المسكين ما يستحقه من عطاء ، بل بخلنا عليه ، وحرمناه حقوقه . .
وكنا - أيضا - فى الدنيا نخوض فى الأقوال السيئة وفى الأفعال الباطلة مع الخائضين فيها ، دون أن نتورع عن اجتناب شئ منها .
وأصل الخوض : الدخول فى الماء ، ثم استعير للجدال الباطل ، وللأحاديث التى لا خير من ورائها .
وكنا - أيضا - نكذب بيوم القيامة ، وننكر إمكانه ووقوعه ، وبقينا على هذا الإِنكار والضلال
( وكنا نكذب بيوم الدين )وهذه أس البلايا . فالذي يكذب بيوم الدين تختل في يده جميع الموازين ، وتضطرب في تقديره جميع القيم ، ويضيق في حسه مجال الحياة ، حين يقتصر على هذا العمر القصير المحدود في هذه الأرض ؛ ويقيس عواقب الأمور بما يتم منها في هذا المجال الصغير القصير ، فلا يطمئن إلى هذه العواقب ، ولا يحسب حساب التقدير الأخير الخطير . . ومن ثم تفسد مقاييسه كلها ويفسد في يده كل أمر من أمور هذه الدنيا ، قبل أن يفسد عليه تقديره للآخرة ومصيره فيها . . وينتهي من ثم إلى شر مصير .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكُنّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدّينِ * حَتّىَ أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } .
وقوله : وكُنّا نُكَذّبُ بِيَوْم الدّين يقول تعالى ذكره : قالوا : وكنا نكذّب بيوم المجازاة والثواب والعذاب ، ولا نصدّق بثواب ولا عقاب ولا حساب حتى أتانا اليَقِينُ يقول : قالوا : حتى أتانا الموت الموقن به فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشّافِعِينَ يقول : فما يشفع لهم الذين شفعهم الله في أهل الذنوب من أهل التوحيد ، فتنفعهم شفاعتهم . وفي هذه الاَية دلالة واضحة على أن الله تعالى ذكره مشفعٌ بعضَ خلقه في بعض . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، قال : حدثنا أبو الزعراء ، عن عبد الله في قصة ذكرها في الشفاعة ، قال : ثم تشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون والمؤمنون ، ويشفعهم الله فيقول : أنا أرحم الراحمين ، فيخرج من النار أكثر مما أخرج من جميع الخلق من النار ثم يقول : أنا أرحم الراحمين ثم قرأ عبد الله : يا أيها الكفار ما سَلَكَكُمْ في سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلّينَ ولَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ وكُنّا نَخُوضُ مَعَ الخائِضِينَ وكُنّا نُكَذّبُ بِيَوْم الدّين وعقد بيده أربعا ، ثم قال : هل ترون في هؤلاء من خير ، ألا ما يُترك فيها أحد فيه خير .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت عمي وإسماعيل بن أبي خالد ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي الزعراء ، قال : قال عبد الله : لا يبقى في النار إلا أربعة أو ذو الأربعة . الشكّ من أبي جعفر الطبري ثم يتلو : ما سَلَكَكُمْ في سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلّينَ ولَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ وكُنّا نَخُوضُ مَعَ الخائِضِينَ وكُنّا نُكَذّبُ بِيَوْم الدّينِ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشّافِعِينَ تعلمن أن الله يشفع المؤمنين يوم القيامة . ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «إنّ مِنْ أُمّتِي رجُلاً يُدْخِلُ اللّهُ بِشَفاعَتِهِ الجَنّةَ أكْثَرَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ » . قال الحسن : أكثر من ربيعة ومضر ، كنا نحدّث أن الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور عن معمر ، عن قتادة فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشّافِعِينَ قال : تعلمن أن الله يشفع بعضهم في بعض .
قال : ثنا أبو ثور ، قال معمر : وأخبرني من سمع أنس بن مالك يقول : إن الرجل ليشفع للرجلين والثلاثة والرجل .
قال : ثنا أبو ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : يدخل الله بشفاعة رجل من هذه الأمة الجنة مثل بني تميم ، أو قال : أكثر من بني تميم ، وقال الحسن : مثل ربيعة ومضر .
وأنهم كذبوا بالجزاء فلم يتطلبوا ما ينجيهم . وهذا كناية عن عدم إيمانهم ، سلكوا بها طريق الإِطناب المناسبَ لمقام التحسر والتلهف على ما فات ، فكأنهم قالوا : لأنا لم نكن من المؤمنين لأن أهل الإِيمان اشتهروا بأنهم أهل الصلاة ، وبأنهم في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ، وبأنهم يؤمنون بالآخرة وبيوم الدين ويصدقون الرسل وقد جمعها قوله تعالى في سورة البقرة ( 2 4 ) { هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون } .
وأصل الخوض الدخول في الماء ، ويستعار كثيراً للمحادثة المتكررة ، وقد اشتهر إطلاقه في القرآن على الجدال واللجاج غير المحمود قال تعالى : { ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } [ الأنعام : 91 ] وغيرَ ذلك ، وقد جمع الإِطلاقين قوله تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } [ الأنعام : 68 ] .
وباعتبار مجموع الأسباب الأربعة في جوابهم فضلاً عن معنى الكناية ، لم يكن في الآية ما يدل للقائلين بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة .