ثم بين - سبحانه - وظيفة الرسل فقال : { وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } ، أى : تلك سنتنا وطريقتنا فى اهلاك المكذبين للرسل ، والمعرضين عن دعوتهم ، فإننا ما نرسل المرسلين إليهم إلا بوظيفة معينة محددة هى تقديم البشارة لمن آمن وعمل صالحاً ، وسوق الإنذار لمن كذب وعمل سيئاً .
فالجملة الكريمة كلام مستأنف مسوق لبيان وظيفة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - ولإظهار أن ما يقترحه المشركون عليهم من مقترحات باطلة ليس من وظائف المرسلين أصلا .
ثم بين - سبحانه - عاقبة من آمن وعاقبة من كفر فقال : { فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ العذاب بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } .
والمعنى : فمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وأصلح فى عمله . فلا خوف عليهم من عذاب الدنيا الذى ينزل بالجاحدين ، ولا من عذاب الآخرة الذى يحل بالمكذبين ، ولا هم يحزنون يوم لقاء الله على شىء فاتهم .
والمس اللمس باليد ، ويطلق على ما يصيب المرء من ضر أو شر - فى الغالب - وفى قوله { يَمَسُّهُمُ العذاب } استعارة تبعية ، فكأن العذاب كائن حى يفعل بهم ما يريد من الآلام والعذاب .
وحين تبلغ الموجة أقصى مدها ، بعرض هذه المشاهد المتوالية ، والتعقيبات الموحية ، والإيقاعات التي تحمل الإنذار إلى أعماق السرائر . . تختم ببيان وظيفة الرسل ، الذين تطالبهم أقوامهم بالخوارق ، وإن هم إلا مبلغين ، مبشرين ومنذرين ، ثم يكون بعد ذلك من أمر الناس ما يكون ، وفق ما يتخذونه لأنفسهم من مواقف يترتب عليها الجزاء الأخير :
( وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين . فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون ) . .
لقد كان هذا الدين يعد البشرية للرشد العقلي ، ويؤهلها لاستخدام هذه الأداة العظيمة التي وهبها الله للإنسان استخداما كاملا في إدراك الحق الذي تنبث آياته في صفحات الوجود ، وفي أطوار الحياة ، وفي أسرار الخلق ؛ والذي جاء هذا القرآن لكشفه وتجليته وتوجيه الإدراك البشري أليه . .
وكان هذا كله يقتضي الانتقال بالبشرية من عهد الخوارق الحسية ؛ التي تلوي الأعناق وتجبر المنكرين على الإذعان ، أمام القهر بالخارقة المادية البادية للعيان ! إلى توجيه الإدراك البشري لملاحظة بدائع الصنعة الإلهية في الوجود كله . وهي في ذاتها خوارق معجزة . . ولكنها خوارق دائمة يقوم عليها كيان الوجود ، ويتألف منها قوامه . وإلى مخاطبة هذا الإدراك بكتاب من عند الله باهر ، معجز في تعبيره ومعجز في منهجه ، ومعجز في الكيان الاجتماعي العضوي الحركي الذي يرمي إلى إنشائه على غير مثال . والذي لم يلحق به من بعده أي مثال !
وقد اقتضى هذا الأمر تربية طويلة ، وتوجيها طويلا ، حتى يألف الإدراك البشري هذا اللون من النقلة ، وهذا المدى من الرقي ؛ وحتى يتجه الإنسان إلى قراءة سفر الوجود بإدراكه البشري ، في ظل التوجيه الرباني ، والضبط القرآني ، والتربية النبوية . . قراءة هذا السفر قراءة غيبية واقعية إيجابية في آن واحد ، بعيدة عن منهج التصورات الذهنية التجريدية التي كانت سائدة في قسم من الفلسفة الإغريقية واللاهوت المسيحي ، وعن منهج التصورات الحسية المادية التي كانت سائدة في قسم من تلك الفلسفة وفي بعض الفلسفة الهندية والمصرية والبوذية والمجوسية كذلك ، مع الخروج من الحسية الساذجة التي كانت سائدة في العقائد الجاهلية العربية !
وجانب من تلك التربية وهذا التوجيه يتمثل في بيان وظيفة الرسول ، وحقيقة دوره في الرسالة على النحو الذي تعرضه هاتان الآيتان - كما ستعرضه الموجة التالية في سياق السورة - فالرسول بشر ، يرسله الله ليبشر وينذر ، وهنا تنتهي وظيفته ، وتبدأ استجابة البشر ، ويمضي قدر الله ومشيئته من خلال هذه الاستجابة ، وينتهي الأمر بالجزاء الإلهي وفق هذه الاستجابة . . فمن آمن وعمل صالحا يتمثل فيه الإيمان ، فلا خوف عليه مما سيأتي ولا هو يحزن على ما أسلف . فهناك المغفرة على ما أسلف ، والثواب على ما أصلح . . ومن كذب بآيات الله التي جاءه بها الرسول ، والتي لفته إليها في صفحات هذا الوجود . يمسهم العذاب بسبب كفرهم ، الذي يعبر عنه هنا بقوله : ( بما كانوا يفسقون )حيث يعبر القرآن غالبا عن الشرك والكفر بالظلم والفسق في معظم المواضع . .
تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض . وبيان محكم عن الرسول ووظيفته وحدود عمله في هذا الدين . . تصور يفرد الله سبحانه بالألوهية وخصائصها ؛ ويرد إلى مشيئة الله وقدره الأمر كله ، ويجعل للإنسان - منخلال ذلك - حرية اتجاهه وتبعة هذا الاتجاه ، ويبين مصائر الطائعين لله والعصاة بيانا حاسما ؛ وينفي كل الأساطير والتصورات الغامضة عن طبيعة الرسول وعمله ، مما كان سائدا في الجاهليات . . وبذلك ينقل البشرية إلى عهد الرشد العقلي ؛ دون أن يضرب بها في تيه الفلسفات الذهنية ، والجدل اللاهوتي ، الذي استنفذ طاقة الإدراك البشري أجيالا بعد أجيال ! ! !
وأوعد الذين سلكوا طريق النذارة فكذب بآيات الله ، وفسق أي خرج عن الحد في كفرانه وعصيانه ، وقال ابن زيد : كل فسق في القرآن فمعناه الكذب ، ذكره عنه الطبري مسنداً و { يمسهم } أي يباشرهم ويلصق بهم ، وقرأ الحسن والأعمش { العذاب بما } بإدغام الباء في الباء ، ورويت عن أبي عمرو ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش «يفسِقون » بكسر السين وهي لغة .
المسُّ حقيقته مباشرة الجسم باليد وهو مرادف اللمس والجسّ ، ويستعار لإصابة جسم جسماً آخر كما في هذه الآية .
وقد تقدّم في قوله تعالى : { ليَمَسَّنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم } في سورة [ المائدة : 73 ] . ويستعار أيضاً للتَّكيّف بالأحوال كما يقال : به مسّ من الجنون . قال تعالى : { إنّ الذين اتَّقوا ءا مسَّهم طائف من الشيطان تذكَّروا فإذا هم مبصرون } [ الأعراف : 201 ] .
وجمع الضمائر العائدة إلى ( مَنْ ) مراعاة لمعناها ، وأمَّا إفراد فعل { آمن } و { أصلح } فلرعي لفظها .
والباء للسببية ، و ( ما ) مصدرية ، أي بسبب فسقهم . والفسق حقيقته الخروج عن حدّ الخير . وشاع استعماله في القرآن في معنى الكفر وتجاوز حدود الله تعالى . وتقدّم تفصيله عند قوله تعالى : { وما يضلّ به إلاّ الفاسقين } في سورة [ البقرة : 26 ] .
وجيء بخبر ( كان ) جملة مضارعية للإشارة إلى أنّ فسقهم كان متجدّداً متكرّراً ، على أنّ الإتيان ب ( كان ) أيضاً للدلالة على الاستمرار لأنّ ( كان ) إذا لم يقصد بها انقضاء خبرها فيما مضى دلَّت على استمرار الخبر بالقرينة ، كقوله تعالى : { وكان الله غفوراً رحيما } [ النساء : 96 ] .