أما الذين سمعوا فأعرضوا وجحدوا فقد بين - سبحانه - مصيرهم السيء بقوله : { والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ الجحيم } .
أي : والذين كفروا وجحدوا الحق الذي جاءهم ، و كذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وصدق رسلنا فأولئك أصحاب الجحيم ، أي : النار الشديدة الاتقاد . يقال : جحم فلان النار إذا شدد إيقادها .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد مدحت أولئك الذين قالوا إنا نصارى ، لأنهم تأثروا بالقرآن عند سماعه فدخلوا في الدين الحق بسرعة ورغبة ، فأكرمهم الله غاية الإِكرام ، وهذا ينطبق على كل نصراني ينهج نهجهم ، ويسلك مسلكهم ، فيدخل في الدين الحق كما دخل هؤلاء المحسنون .
أما الذين كفروا وكذبوا بآيات الله وحججه فأولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } . .
يقول تعالى ذكره : وأما الذين جحدوا توحيد الله ، وأنكروا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكذّبوا بآيات كتابه ، فإن أولئك أصحاب الجحيم ، يقول : هم سكانها واللابثون فيها . والجحيم : ما اشتدّ من النار ، وهو الجاحم والجحيم .
ثم ذكر حال الكافرين المكذبين وأنهم قرناء الجحيم{[4667]} ، والمعنى قد علم من غير ما آية من كتاب الله أنه اقتران لازم دائم أبدي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
(والذين كفروا وكذبوا بآياتنا)، يعني بالقرآن، بأنه ليس من الله عز وجل، (أولئك أصحاب الجحيم)، يعني ما عظم من النار.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وأما الذين جحدوا توحيد الله، وأنكروا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وكذّبوا بآيات كتابه، فإن أولئك أصحاب الجحيم، يقول: هم سكانها واللابثون فيها. والجحيم: ما اشتدّ من النار.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} قال بعضهم: الجحيم هو اسم معظم النار. وقال غيرهم: هو اسم درك من دركات النار، وكذلك السعير.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
لما كان أهل الكتاب فريقين أحدهما آمنوا، والثاني كفروا، وذكر الوعد للمؤمنين منهم اقتضى أن يذكر الوعيد لمن كفر منهم وأطلق اللفظ ليكون لهم ولكل من جرى مجراهم، وإنما شرط في الوعيد على الكفر بالتكذيب بالآيات وإن كان كل واحد منهما يستحق به العقاب، لأن صفة الكفار من أهل الكتاب أنهم يكذبون بالآيات، فلم يصلح -هاهنا- لو كذبوا لأنهم قد جمعوا الأمرين، ولأن دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله) بوعيد الكفار ظاهرة مع مجيء القرآن به في نحو قوله "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء". فلم يقع فيه إشكال لهذا. وقوله "أولئك "يعني هؤلاء الكفار. و" أصحاب الجحيم "يعني الملازمون لها، كقولك أصحاب الصحراء وليس كمثل أصحاب الأموال، لأن معنى ذلك ملاك الأموال. وليس من شرط المكذب أن يكون عالما أن ما كذب به صحيح، بل اذا اعتقد أن الخبر كذب سمي مكذبا، وإن لم يعلم أنه كذب، وإنما يستحق الذم، لأنه جُعِل له طريقٌ إلى أن يعلم صحة ما كذب به. و" الجحيم "النار الشديدة الإيقاد، وهو اسم من أسماء جهنم.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} عطف التكذيب بآيات الله على الكفر، وهو ضرب منه لأن القصد إلى بيان حال المكذبين وذكرهم في معرض المصدقين بها جمعا بين الترغيب والترهيب.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} اندرج في {الذين كفروا وكذبوا} اليهود والنصارى وغيرهم لما ذكر ما للمؤمن ذكر ما أعد للكافر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر سبحانه وتعالى جزاء المطيعين المبادرين إلى الإذعان ترغيباً، ذكر جزاء من لم يفعل فعلهم ترهيباً فقال: {والذين كفروا} أي ستروا ما أوضحته له عقولهم من الدلالة على صحة ما دعتهم إليه الرسل {وكذبوا} أي عناداً {بآياتنا} أي بالعلامات المضافة لعظمها إلينا {أولئك} أي البعداء من الرحمة {أصحاب الجحيم} أي الذين لا ينفكون عنها، لا غيرهم من العصاة المؤمنين وإن كثرت كبائرهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والمقصود قطعا بالذين كفروا وكذبوا في هذا الموضع هم الذين يسمعون -من الذين قالوا إنا نصارى- ثم لا يستجيبون.. والقرآن يسميهم الكافرين كلما كانوا في مثل هذا الموقف. سواء في ذلك اليهود والنصارى؛ ويضمهم إلى موكب الكفار مع المشركين سواء؛ ما داموا في موقف التكذيب لما أنزل الله على رسوله من الحق؛ وفي موقف الامتناع عن الدخول في الإسلام الذي لا يقبل الله من الناس دينا سواه...
وليس كل من قالوا: إنهم نصارى إذن داخلين في ذلك الحكم: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا).. كما يحاول أن يقول من يقتطعون آيات القرآن دون تمامها إنما هذا الحكم مقصور على حالة معينة لم يدع السياق القرآني أمرها غامضا، ولا ملامحها مجهلة، ولا موقفها متلبسا بموقف سواها في كثير ولا قليل...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ذكر سبحانه وتعالى جزاء الذين استمروا على كفرهم في مقابل جزاء الذين آمنوا وطمعوا في رحمة الله تعالى، وأدركوا الحق فاذعنوا له، وكان جزاء الكافرين أنهم صاروا أصحاب الجحيم أي الملازمين لها الذين لا يفارقونها، والجحيم هي النار المتأججة التي لا تنطفئ وقد استحق ذلك العقاب بسببين: أولهما، كفرهم وجحودهم بالحقائق الثابتة التي جاءتهم والتي تدركها العقول السليمة فهم قد استحقوا بكفرهم بها مع ان النفس السليمة تذعن لها من غير تردد لانها هي التي تتفق مع العقل والفطرة المستقيمة. الثاني: أنهم كذبوا بآيات الله تعالى أي الأدلة والمعجزات التي ساقها رب العالمين لتأييد النبي المرسل الذي أرسل إليهم، فهم لم يؤمنوا بهذه المعجزات ولم يصدقوها. فكانوا حائرين بائرين، إذ لم يدركوا الحق في ذلته وهو متفق مع العقل المستقيم ولم يتقبلوا الأدلة القاطعة، التي سيقت إليهم للدلالة على الحق الذي لم يدركوه. وهذان السببان هما اللذان من أجلهما كان العقاب ولذلك عبر بالموصل الذي يدل على أن الصلة هي سبب الحكم وعبر بالإشارة وهي تدل على أن المشار إليه هو سبب الحكم. وكلمة الذين كفروا تشمل من كانوا من أهل الكتاب ومن كانوا من غيرهم لأن السبب في ذلك الجزاء الأليم يتحقق في النوعين: إذ كلاهما كفر بالحق لما جاءه، وكلاهما كذب آيات الله تعالى التي ساقها للدلالة على رسالة الرسول وحيث تحقق السبب تحقق المسبب لا محالة وهو العذاب الأليم الدائم. هدانا الله إلى الحق، وإلى صراط الله العزيز الحميد.
ونعرف أن كلمة (صاحب) وكلمة (صحبة) وكلمة (أصحاب)، وهذه الكلمات تدل على الملازمة، والملازمة في الحياة تكون اختيارية لا قهرية؛ فلا أحد يصاحب أحدا بالقهر. ونفهم من قوله: {أصحاب الجحيم} أن هذا يعني العشق المتبادل بين النار وأهلها، وليس هذا مرادا، فهو إما أن يكون على سبيل السخرية والاستهزاء بهم، وإما أن يكون المراد هو الملازمة التامة والمصاحبة الدائمة التي لا تنفك ولا تنتهي.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنَّ التأكيد على استخدام صيغة التفضيل في عداوة اليهود والَّذين أشركوا للمسلمين، يجعلنا نواجه الموقف في علاقتنا مع اليهود والجماعات الملحدة والمشركة، من خلال هذا الخط، فنعيش معهم، كما يعيش الإنسان مع عدوّه، لأنَّ اليهود يخططون لإضعاف الإسلام والمسلمين، وبالتالي للقضاء على وجوده ووجودهم، ولأنَّ الملحدين والمشركين يعملون على نسف كل قواعد الإيمان في الحياة، ما يجعل من مسألة العداوة أمراً طبيعياً، لأنَّ ذلك يرى أنَّ رسالته وعقيدته يفرضان عليه القضاء على فكرك أو عليك، وبالتالي لا يمكنك أن تعتبره صديقاً، أو تتعامل معه معاملة الصديق، إلاَّ إذا كنت ساذجاً لا تفهم الأشياء بوضوح. وفي ضوء هذا، ينبغي لنا أن نواجه بحذر الدعوات المؤكدة على التسامح في هذا المجال، في ما يُرفع من شعارات التسامح الديني، ورفض التعصّب، وما إلى ذلك. فقد يكون المقصود من ذلك كله، تخفيف حالة التوتر الفكري والروحي والعملي الّتي يعيشها الإنسان المؤمن المسلم، للمحافظة على خط الثبات في مواقعه الإسلاميّة، وعدم إفساح المجال للاهتزاز والتزلزل أمام هجمات الأعداء، لأنَّ الإنسان كلّما اقترب من حالة الاسترخاء في مواقع التحدي، كلّما اقترب من الهزيمة أمام مخططات الأعداء. ربَّما يكون من المصلحة للإسلام والمسلمين أن يحافظوا على نسبة عالية من درجات التوتر والالتزام بالخط، لئلا يستغل العدو حالة الاسترخاء الّتي يعمل لإيجادها، فيهزمنا بالضربة القاضية، ولكن ليس معنى ذلك أنَّنا نواجه الموقف بأساليب الانفعال المثيرة الّتي تملأ الجو بكل عناصر الإثارة، لتخلق حرباً هنا وحرباً هناك، وتُثير الفوضى والخلافات الطائفيّة الحاقدة في كل مكان، لأنَّنا لا نجد في ذلك مصلحة للمسيرة الإسلاميّة، بل معنى كل ذلك أنَّنا نواجه الموقف بأساليب الوعي الّتي تتحرّك في الساحة بطريقة واقعيّة تتعامل مع المعطيات والظروف الموضوعيّة من موقع المحافظة على الوجود أمام الآخرين الَّذين يعملون لتصفية هذا الوجود أو هزيمته. وقد يفرض علينا الواقع أن ندخل مع هؤلاء في علاقاتٍ تجاريّةٍ وسياسيّةٍ وعلميّة، فلا نجد في ذلك أيَّ حرج، في حدود المصلحة العليا للإسلام والمسلمين، لأنَّ الإنسان قد يجد من الخير أن يتعامل مع عدوه في حالات الهدنة، مع الاحتفاظ بالحيطة والحذر في مختلف الظروف والأوقات والمظاهر.