وهم كانوا يستثقلون دعوة النبي لهم إلى الهدى ؛ وهو يقدمه لهم خالصا بريئا ، لا يطلب عليه أجرا ، ولا يفرض عليهم إتاوة . وأيسر ما يقتضيه هذا العرض البريء أن يستقبل صاحبه بالحسنى ، وأن يرد بالحسنى إذا لم يقبلوا ما يقدمه لهم ويعرضه عليهم . وهو هنا يستنكر مسلكهم الذي لا داعي له يقول :
( أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ? ) . .
أي مثقلون من الغرم الذي تكلفهم إياه في صورة الأجر على ما تقول ! فإذا كان الواقع أن لا أجر ولا غرامة . فكم يبدوا عملهم مسترذلا قبيحا ، يخجلون منه حين يواجهون به ?
مغرم : التزام غرامة تطلبها منهم .
مثقلون : محمّلون ما يثقلهم ويجهدهم .
40- { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ } .
لقد أدّى جميع الرّسل رسالات السماء تطوعا دون أجر ، أو تقاضي أموال من المرسل إليهم .
وكان محمد صلى الله عليه وسلم مشهورا بأنه الصادق الأمين ، وكان حريصا على هدايتهم ، ومع هذا أعرضوا عن الهداية التي قدّمها الرسول صلى الله عليه وسلم لهم .
وهنا يتساءل القرآن : هل أنت يا محمد تطلب منهم أجرا وأموالا كثيرة على تبليغ الرسالة ، أو دخولهم في الإسلام ، فهم مشفقون من التزام غرامة ثقيلة تطلبها منهم على الهداية ؟
الواقع أنك لا تطلب منهم أجرا كبيرا ولا قليلا ، فلماذا يفرّون من الهدى ، وفيه صلاحهم وهو بين أيديهم ؟
وقريب من هذه الآية قوله تعالى على لسان نوح عليه السلام : { ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله . . } . ( هود : 29 ) .
{ أَمْ تَسْأَلُهُمْ } يا أيها الرسول { أَجْرًا } على تبليغ الرسالة ، { فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ } ليس الأمر كذلك ، بل أنت الحريص على تعليمهم ، تبرعا من غير شيء ، بل تبذل لهم الأموال الجزيلة ، على قبول رسالتك ، والاستجابة [ لأمرك
و ] دعوتك ، وتعطي المؤلفة قلوبهم [ ليتمكن العلم والإيمان من قلوبهم ] .
ولما كان المكذب بشيء قد يكون معترفاً بأنه من عند إلهه ، وأن إلهه متصف بجميع {[61614]}صفات الكمال{[61615]} فلا شريك له ، وإنما تكذيبه لقادح لا يقدر عليه ، وكرب رمى بجميع{[61616]} أنكاده إليه ، أعرض عنهم التفاتاً إلى الأسلوب الأول فقال مخاطباً له صلى الله عليه وسلم تنويهاً بذكره ورفعاً لعظيم قدره وتسلية لما يعلم من نفسه الشريفة البراءة منه : { أم تسألهم } أي أيها الطاهر الشيم البعيد عن مواضع التهم{[61617]} { أجراً } على إبلاغ ما أتيتهم به { فهم من مغرم } ولو قل ، والمغرم : التزام{[61618]} ما لا يجب { مثقلون * } أي حمل عليهم حامل بذلك ثقلاً فهم لذلك يكذبون من كان سبباً في هذا الثقل بغير مستند ليستريحوا مما جره لهم من الثقل .