ولما ذكر ثواب المحسنين ، ذكر عقاب المسيئين قال : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } لأنهم{[276]} كفروا بالله ، وكذبوا بآياته المبينة للحق .
{ 87 - 88 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ }
ولكن السياق القرآني لا يقف عند هذا الحد في تحديد ملامح هذا الفريق المقصود من الناس الذين تجدهم أقرب مودة للذين آمنوا بل إنه ليمضي فيميزه من الفريق الآخر من الذين قالوا : إنا نصارى ممن يسمعون هذا الحق فيكفرون به ويكذبون ، ولايستجيبون له ، ولا ينضمون إلى صفوف الشاهدين : ( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ) : . .
والمقصود قطعا بالذين كفروا وكذبوا في هذا الموضع هم الذين يسمعون - من الذين قالوا إنا نصارى - ثم لا يستجيبون . . والقرآن يسميهم الكافرين كلما كانوا في مثل هذا الموقف . سواء في ذلك اليهود والنصارى ؛ ويضمهم إلى موكب الكفار مع المشركين سواء ؛ ما داموا في موقف التكذيب لما أنزل الله على رسوله من الحق ؛ وفي موقف الامتناع عن الدخول في الإسلام الذي لا يقبل الله من الناس دينا سواه . . نجد هذا في مثل قول الله سبحانه :
( لم يكن الذين كفروا - من أهل الكتاب والمشركين - منفكين حتى تأتيهم البينة ) . .
( إن الذين كفروا - من أهل الكتاب والمشركين - في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية ) . .
( لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة ) . .
( لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم ) . .
( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ) . .
فهو تعبير مألوف في القرآن ، وحكم معهود . . وهو يأتي هنا للتفرقة بين فريقين من الذين قالوا : إنا نصارى ؛ وللتفرقة بين موقف كل فريق منهما تجاه الذين آمنوا ؛ وللتفرقة كذلك بين مصير هؤلاء وأولئك عند الله . . هؤلاء لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين وأولئك أصحاب الجحيم . .
وليس كل من قالوا : إنهم نصارى إذن داخلين في ذلك الحكم : ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا ) . . كما يحاول أن يقول من يقتطعون آيات القرآن دون تمامها إنما هذا الحكم مقصور على حالة معينة لم يدع السياق القرآني أمرها غامضا ، ولا ملامحها مجهلة ، ولا موقفها متلبسا بموقف سواها في كثير ولا قليل . .
ولقد وردت روايات لها قيمتها في تحديد من هم النصارى المعنيون بهذا النص :
أورد القرطبي في تفسيره : " وهذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه ، لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الأولى - حسب ما هو مشهور في سيرة ابن اسحاق وغيره - خوفا من المشركين وفتنتهم ؛ وكانوا ذوي عدد ثم هاجر رسول الله [ ص ] إلى المدينة بعد ذلك فلم يقدروا على الوصول إليه ، حالت بينهم وبين رسول الله [ ص ] الحرب فلما كانت وقعة بدر وقتل الله فيها صناديد الكفار ، قال كفارقريش : إن ثأركم بأرض الحبشة فأهدوا إلى النجاشي وابعثوا له برجلين من ذوي رأيكم يعطيكم من عنده ، فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر . فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة بهدايا . فسمع رسول الله [ ص ] بذلك ، فبعث رسول الله [ ص ] عمرو بن أمية الضمري وكتب معه إلى النجاشي ؛ فقدم على النجاشي ، فقرأ كتاب رسول الله [ ص ] ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين ، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم . ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن ، فقرأ سورة " مريم " فقاموا تفيض أعينهم من الدمع . فهم الذين أنزل الله فيهم : ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى )وقرأ إلى ( الشاهدين )[ رواه أبو داود . قال : حدثنا محمد بن مسلمة المرادي ، قال : حدثنا ابن وهب . قال : أخبرني يونس عن ابن شهاب ، عن أبي بكر عبدالرحمن بن الحرث بن هشام . وعن سعيد بن المسيب وعن عروة بن الزبير : أن الهجرة الأولى هجرة المسلمين إلى أرض الحبشة . وساق الحديث بطوله ] .
" وذكر البيهقي عن ابن إسحاق قال : قدم على النبي [ ص ] عشرون رجلا وهو بمكة ، أو قريب من ذلك ، من النصارى حين ظهر خبره ، من الحبشة ، فوجدوه في المسجد ، فكلموه وسألوه ، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة . فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله [ ص ] عما أرادوا ، دعاهم رسول الله [ ص ] إلى الله عز وجل ، وتلا عليهم القرآن . فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه ، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره . فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا : خيبكم الله من ركب ! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل ، فلم تطل مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم ، ما نعلم ركبا أحمق منكم - أو كما قال لهم - فقالوا : سلام عليكم لا نجاهلكم ، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ، لا نألو أنفسنا خيرا . . فيقال : إن النفر النصارى من أهل نجران . ويقال : إن فيهم نزلت هؤلاء الآيات : ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ) إلى قوله : ( لا نبتغي الجاهلين ) .
" وقيل : إن جعفرا وأصحابه قدم على النبي [ ص ] في سبعين رجلا عليهم ثياب الصوف ، فيهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم بحيراء الراهب وإدريس وأشرف وأبرهة وثمامة وقثم ودريد وأيمن . فقرأ عليهم رسول الله [ ص ] سورة " يس " إلى آخرها ، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا به ، وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى فنزلت فيهم ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى ) يعني وفد النجاشي وكانوا أصحاب الصوامع وقال سعيد بن جبير : وأنزل الله فيهم أيضا( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون )إلى قوله ( أولئك يؤتون أجرهم مرتين )إلى آخر الآية وقال مقاتل والكلبي كانوا أربعين رجلا من أهل نجران من بني الحرث بن كعب ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية وستين من أهل الشام وقال قتادة : نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى ، فلما بعث الله محمدًا [ ص ] آمنوا به فأثنى الله عليهم "
وهذا الذي نقرره في معنى هذا النص ؛ والذي يدل عليه السياق بذاته ، وتؤيده هذه الروايات التي أسلفنا ، هو الذي يتفق مع بقية التقريرات في هذه السورة وفي غيرها عن موقف أهل الكتاب عامة - اليهود والنصارى - من هذا الدين وأهله 0كما أنه هو الذي يتفق مع الواقع التاريخي الذي عرفته الأمة المسلمة خلال أربعة عشر قرنا .
إن السورة وحدة في اتجاهها وظلالها وجوها وأهدافها ؛ وكلام الله سبحانه لا يناقض بعضه بعضا ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا ) . . وقد وردت في هذه السورة نفسها نصوص وتقريرات ، تحدد معنى هذا النص الذي نواجهه هنا وتجلو نذكر منها :
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض ، ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
قل : يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ، فلا تأس على القوم الكافرين . .
كذلك جاء في سورة البقرة : ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل : إن هدى الله هو الهدى ؛ ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير . .
كذلك صدق الواقع التاريخي ما حذر الله الأمة المسلمة إياه ؛ من اليهود ومن النصارى سواء وإذا كان الواقع التاريخي قد حفظ لليهود وقفتهم النكدة للإسلام منذ اليوم الأول الذي دخل فيه الإسلام عليهم المدينة ؛ في صورة كيد لم ينته ولم يكف حتى اللحظة الحاضرة ؛ وإذا كان اليهود لا يزالون يقودون الحملة ضد الإسلام في كل أرجاء الأرض اليوم في حقد خبيث وكيد لئيم فإن هذا الواقع قد حفظ كذلك للنصارى الصليبيين أنهم اتخذوا من الإسلام موقف العداء منذ واقعة اليرموك بين جيش المسلمين وجيوش الروم - فيما عدا الحالات التي وقع فيها ما تصفه الآيات التي نحن بصددها فاستجابت قلوب للإسلام ودخلت فيه وفيما عدا حالات أخرى آثرت فيها طوائف من النصارى أن تحتمي بعدل الإسلام من ظلم طوائف أخرى من النصارى كذلك ؛ يلاقون من ظلمها الوبال ! - أما التيار العام الذي يمثل موقف النصارى جملة فهو تلك الحروب الصليبية التي لم يخب أوارها قط - إلا في الظاهر - منذ التقى الإسلام والرومان على ضفاف اليرموك ! لقد تجلت أحقاد الصليبية على الإسلام وأهله في الحروب الصليبية المشهورة طوال قرنين من الزمان ، كما تجلت في حروب الابادة التي شنتها الصليبية على الاسلام والمسلمين في الاندلس ر ، ثم في حملات الاستعمار والتبشير على المماليك الإسلامية في إفريقية أولا ، ثم في العالم كله أخيرا . .
ولقد ظلت الصهيونية العالمية والصليبة العالمية حليفتين في حرب الإسلام - على كل ما بينهما من أحقاد - ولكنهم كانوا في حربهم للإسلام كما قال عنهم العليم الخبير : ( بعضهم أولياء بعض )حتى مزقوا دولة الخلافة الأخيرة ثم مضوا في طريقهم ينقضون هذا الدين عروة عروة . وبعد أن أجهزوا على عروة( الحكم )ها هم أولاء يحاولون الإجهاز على عروة " الصلاة " !
ثم ها هم أولاء يعيدون موقف اليهود القديم مع المسلمين والوثنين فيؤيدون الوثنية حيثما وجدت ضد الإسلام عن طريق المساعدات المباشرة تارة ، وعن طريق المؤسسات الدولية التي يشرفون عليها تارة أخرى ! وليس الصراع بين الهند وباكستان على كشمير وموقف الصليبية منها ببعيد .
وذلك فوق إقامة واحتضان وكفالة الأوضاع التي تتولى سحق حركات الإحياء والبعث الإسلامية في كل مكان على وجه الأرض . وإلباس القائمين بهذه الأوضاع أثواب البطولة الزائفة ودق الطبول من حولهم ، ليستطيعوا الإجهاز على الإسلام ، في زحمة الضجيج العالمي حول الأقزام الذين يلبسون أردية الأبطال !
هذا موجز سريع لما سجله الواقع التاريخي طوال أربعة عشر قرنا ؛ من موقف اليهودية والصليبية تجاه الإسلام ؛ لا فرق بين هذه وتلك ؛ ولا افتراق بين هذا المعسكر وذاك في الكيد للإسلام ، والحقد عليه ، والحرب الدائبة التي لا تفتر على امتداد الزمان .
وهذا ما ينبغي أن يعيه الواعون اليوم وغدا ؛ فلا ينساقوا وراء حركات التمييع الخادعة أو المخدوعة ؛ التي تنظر إلى أوائل مثل هذا النص القرآني - دون متابعة لبقيته ؛ ودون متابعة لسياق السورة كله ، ودون متابعة لتقريرات القرآن عامة ، ودون متابعة للواقع التاريخي الذي يصدق هذا كله - ثم تتخذ من ذلك وسيلة لتخدير مشاعر المسلمين تجاه المعسكرات التي تضمر لهم الحقد وتبيت لهم الكيد ؛ الأمر الذي تبذل فيه هذه المعسكرات جهدها ، وهي بصدد الضربة الأخيرة الموجهة إلى جذور العقيدة .
إن هذه المعسكرات لا تخشى شيئا أكثر مما تخشى الوعي في قلوب العصبة المؤمنة - مهما قل عددها وعدتها - فالذين ينيمون هذا الوعي هم أعدى أعداء هذه العقيدة . وقد يكون بعضهم من الفرائس المخدوعة ؛ ولكن ضررهم لا يقل - حينئذ - عن ضرر أعدى الأعداء ، بل إنه ليكون أشد أذى وضرا .
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ؛ وهو لا يناقض بعضه بعضا ، فلنقرأه إذن على بصيرة . .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
(والذين كفروا وكذبوا بآياتنا)، يعني بالقرآن، بأنه ليس من الله عز وجل، (أولئك أصحاب الجحيم)، يعني ما عظم من النار.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وأما الذين جحدوا توحيد الله، وأنكروا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وكذّبوا بآيات كتابه، فإن أولئك أصحاب الجحيم، يقول: هم سكانها واللابثون فيها. والجحيم: ما اشتدّ من النار.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} قال بعضهم: الجحيم هو اسم معظم النار. وقال غيرهم: هو اسم درك من دركات النار، وكذلك السعير.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
لما كان أهل الكتاب فريقين أحدهما آمنوا، والثاني كفروا، وذكر الوعد للمؤمنين منهم اقتضى أن يذكر الوعيد لمن كفر منهم وأطلق اللفظ ليكون لهم ولكل من جرى مجراهم، وإنما شرط في الوعيد على الكفر بالتكذيب بالآيات وإن كان كل واحد منهما يستحق به العقاب، لأن صفة الكفار من أهل الكتاب أنهم يكذبون بالآيات، فلم يصلح -هاهنا- لو كذبوا لأنهم قد جمعوا الأمرين، ولأن دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله) بوعيد الكفار ظاهرة مع مجيء القرآن به في نحو قوله "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء". فلم يقع فيه إشكال لهذا. وقوله "أولئك "يعني هؤلاء الكفار. و" أصحاب الجحيم "يعني الملازمون لها، كقولك أصحاب الصحراء وليس كمثل أصحاب الأموال، لأن معنى ذلك ملاك الأموال. وليس من شرط المكذب أن يكون عالما أن ما كذب به صحيح، بل اذا اعتقد أن الخبر كذب سمي مكذبا، وإن لم يعلم أنه كذب، وإنما يستحق الذم، لأنه جُعِل له طريقٌ إلى أن يعلم صحة ما كذب به. و" الجحيم "النار الشديدة الإيقاد، وهو اسم من أسماء جهنم.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} عطف التكذيب بآيات الله على الكفر، وهو ضرب منه لأن القصد إلى بيان حال المكذبين وذكرهم في معرض المصدقين بها جمعا بين الترغيب والترهيب.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} اندرج في {الذين كفروا وكذبوا} اليهود والنصارى وغيرهم لما ذكر ما للمؤمن ذكر ما أعد للكافر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر سبحانه وتعالى جزاء المطيعين المبادرين إلى الإذعان ترغيباً، ذكر جزاء من لم يفعل فعلهم ترهيباً فقال: {والذين كفروا} أي ستروا ما أوضحته له عقولهم من الدلالة على صحة ما دعتهم إليه الرسل {وكذبوا} أي عناداً {بآياتنا} أي بالعلامات المضافة لعظمها إلينا {أولئك} أي البعداء من الرحمة {أصحاب الجحيم} أي الذين لا ينفكون عنها، لا غيرهم من العصاة المؤمنين وإن كثرت كبائرهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والمقصود قطعا بالذين كفروا وكذبوا في هذا الموضع هم الذين يسمعون -من الذين قالوا إنا نصارى- ثم لا يستجيبون.. والقرآن يسميهم الكافرين كلما كانوا في مثل هذا الموقف. سواء في ذلك اليهود والنصارى؛ ويضمهم إلى موكب الكفار مع المشركين سواء؛ ما داموا في موقف التكذيب لما أنزل الله على رسوله من الحق؛ وفي موقف الامتناع عن الدخول في الإسلام الذي لا يقبل الله من الناس دينا سواه...
وليس كل من قالوا: إنهم نصارى إذن داخلين في ذلك الحكم: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا).. كما يحاول أن يقول من يقتطعون آيات القرآن دون تمامها إنما هذا الحكم مقصور على حالة معينة لم يدع السياق القرآني أمرها غامضا، ولا ملامحها مجهلة، ولا موقفها متلبسا بموقف سواها في كثير ولا قليل...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ذكر سبحانه وتعالى جزاء الذين استمروا على كفرهم في مقابل جزاء الذين آمنوا وطمعوا في رحمة الله تعالى، وأدركوا الحق فاذعنوا له، وكان جزاء الكافرين أنهم صاروا أصحاب الجحيم أي الملازمين لها الذين لا يفارقونها، والجحيم هي النار المتأججة التي لا تنطفئ وقد استحق ذلك العقاب بسببين: أولهما، كفرهم وجحودهم بالحقائق الثابتة التي جاءتهم والتي تدركها العقول السليمة فهم قد استحقوا بكفرهم بها مع ان النفس السليمة تذعن لها من غير تردد لانها هي التي تتفق مع العقل والفطرة المستقيمة. الثاني: أنهم كذبوا بآيات الله تعالى أي الأدلة والمعجزات التي ساقها رب العالمين لتأييد النبي المرسل الذي أرسل إليهم، فهم لم يؤمنوا بهذه المعجزات ولم يصدقوها. فكانوا حائرين بائرين، إذ لم يدركوا الحق في ذلته وهو متفق مع العقل المستقيم ولم يتقبلوا الأدلة القاطعة، التي سيقت إليهم للدلالة على الحق الذي لم يدركوه. وهذان السببان هما اللذان من أجلهما كان العقاب ولذلك عبر بالموصل الذي يدل على أن الصلة هي سبب الحكم وعبر بالإشارة وهي تدل على أن المشار إليه هو سبب الحكم. وكلمة الذين كفروا تشمل من كانوا من أهل الكتاب ومن كانوا من غيرهم لأن السبب في ذلك الجزاء الأليم يتحقق في النوعين: إذ كلاهما كفر بالحق لما جاءه، وكلاهما كذب آيات الله تعالى التي ساقها للدلالة على رسالة الرسول وحيث تحقق السبب تحقق المسبب لا محالة وهو العذاب الأليم الدائم. هدانا الله إلى الحق، وإلى صراط الله العزيز الحميد.
ونعرف أن كلمة (صاحب) وكلمة (صحبة) وكلمة (أصحاب)، وهذه الكلمات تدل على الملازمة، والملازمة في الحياة تكون اختيارية لا قهرية؛ فلا أحد يصاحب أحدا بالقهر. ونفهم من قوله: {أصحاب الجحيم} أن هذا يعني العشق المتبادل بين النار وأهلها، وليس هذا مرادا، فهو إما أن يكون على سبيل السخرية والاستهزاء بهم، وإما أن يكون المراد هو الملازمة التامة والمصاحبة الدائمة التي لا تنفك ولا تنتهي.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنَّ التأكيد على استخدام صيغة التفضيل في عداوة اليهود والَّذين أشركوا للمسلمين، يجعلنا نواجه الموقف في علاقتنا مع اليهود والجماعات الملحدة والمشركة، من خلال هذا الخط، فنعيش معهم، كما يعيش الإنسان مع عدوّه، لأنَّ اليهود يخططون لإضعاف الإسلام والمسلمين، وبالتالي للقضاء على وجوده ووجودهم، ولأنَّ الملحدين والمشركين يعملون على نسف كل قواعد الإيمان في الحياة، ما يجعل من مسألة العداوة أمراً طبيعياً، لأنَّ ذلك يرى أنَّ رسالته وعقيدته يفرضان عليه القضاء على فكرك أو عليك، وبالتالي لا يمكنك أن تعتبره صديقاً، أو تتعامل معه معاملة الصديق، إلاَّ إذا كنت ساذجاً لا تفهم الأشياء بوضوح. وفي ضوء هذا، ينبغي لنا أن نواجه بحذر الدعوات المؤكدة على التسامح في هذا المجال، في ما يُرفع من شعارات التسامح الديني، ورفض التعصّب، وما إلى ذلك. فقد يكون المقصود من ذلك كله، تخفيف حالة التوتر الفكري والروحي والعملي الّتي يعيشها الإنسان المؤمن المسلم، للمحافظة على خط الثبات في مواقعه الإسلاميّة، وعدم إفساح المجال للاهتزاز والتزلزل أمام هجمات الأعداء، لأنَّ الإنسان كلّما اقترب من حالة الاسترخاء في مواقع التحدي، كلّما اقترب من الهزيمة أمام مخططات الأعداء. ربَّما يكون من المصلحة للإسلام والمسلمين أن يحافظوا على نسبة عالية من درجات التوتر والالتزام بالخط، لئلا يستغل العدو حالة الاسترخاء الّتي يعمل لإيجادها، فيهزمنا بالضربة القاضية، ولكن ليس معنى ذلك أنَّنا نواجه الموقف بأساليب الانفعال المثيرة الّتي تملأ الجو بكل عناصر الإثارة، لتخلق حرباً هنا وحرباً هناك، وتُثير الفوضى والخلافات الطائفيّة الحاقدة في كل مكان، لأنَّنا لا نجد في ذلك مصلحة للمسيرة الإسلاميّة، بل معنى كل ذلك أنَّنا نواجه الموقف بأساليب الوعي الّتي تتحرّك في الساحة بطريقة واقعيّة تتعامل مع المعطيات والظروف الموضوعيّة من موقع المحافظة على الوجود أمام الآخرين الَّذين يعملون لتصفية هذا الوجود أو هزيمته. وقد يفرض علينا الواقع أن ندخل مع هؤلاء في علاقاتٍ تجاريّةٍ وسياسيّةٍ وعلميّة، فلا نجد في ذلك أيَّ حرج، في حدود المصلحة العليا للإسلام والمسلمين، لأنَّ الإنسان قد يجد من الخير أن يتعامل مع عدوه في حالات الهدنة، مع الاحتفاظ بالحيطة والحذر في مختلف الظروف والأوقات والمظاهر.