ثم حكى القرآن ما طلبه إبليس من الله - تعالى - وما أجاب الله به عليه .
أى : قال إبليس لله - تعالى - أخرنى ولا تمتنى إلى يوم بعث آدم وذريته من القبور ، وهو وقت النفخة الثانية عند قيام الساعة . وقد أراد بذلك النجاة من الموت : إذ لا موت بعد البعث . كما أراد بذلك أن يجد فسحة من الإغواء لبنى آدم .
وقوله : { أَنظِرْنِي } مأخوذ من الإنظار بمعنى الإمهال والتأخير . تقول أنظرته بحقى أنظره إنظارا أى : أمهلته .
يقول تعالى مخاطبًا لإبليس بأمر قدري كوني : { فَاهْبِطْ مِنْهَا } أي : بسبب عصيانك لأمري ، وخروجك عن طاعتي ، فما يكون لك أن تتكبر فيها .
قال كثير من المفسرين : الضمير عائد إلى الجنة ، ويحتمل أن يكون عائدًا إلى المنزلة التي هو فيها في الملكوت الأعلى .
{ فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } أي : الذليلين الحقيرين ، معاملة له بنقيض قصده ، مكافأة لمراده بضده ، فعند ذلك استدرك اللعين وسأل النظرة إلى يوم الدين ، قال : { أَنْظِرْنِي{[11589]} إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِين } أجابه تعالى إلى ما سأل ، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع ، ولا مُعَقِّبَ لحكمه ، وهو سريع الحساب .
لمّا كوّن الله فيه الصّغار والحقارة بعد عزّة الملَكية وشرفها انقلبت مرامي همّته إلى التّعلق بالسّفاسف ( إذَا ما لم تكن إبل فمَعْزَى ) فسأل النَّظِرة بطول الحياة إلى يوم البعث ، إذ كان يعلم قبل ذلك أنّه من الحوادث الباقية لأنّه من أهل العالم الباقي ، فلمّا أهبط إلى العالم الأرضي ظنّ أنّه صائر إلى العدم فلذلك سأل النَظِرة إبقاء لما كان له من قبلُ ، وإذ قد كان ذلك بتقدير الله تعالى وعلِمه ، وبَدر من إبليس طلب النظِرة ، قال الله تعالى : { إنك من المنظرين } أي إنّك من المخلوقات الباقية .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذه أيضا جهلة أخرى من جهلاته الخبيثة، سأل ربه ما قد علم أنه لا سبيل لأحد من خلق الله إليه وذلك أنه سأل النظرة إلى قيام الساعة، وذلك هو يوم يبعث فيه الخلق، ولو أعطي ما سأل من النظرة كان قد أعطي الخلود وبقاءً لا فناءَ معه، وذلك أنه لا موت بعد البعث. فقال جلّ ثناؤه له:"إنّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ إلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ" وذلك إلى اليوم الذي قد كتب الله عليه فيه الهلاك والموت والفناء لأنه لا شيء يبقى فلا يفني غير ربنا الحيّ الذي لا يموت، يقول الله تعالى ذكره: "كُلّ نَفْس ذَائِقَةُ المَوْتِ". والإنظار في كلام العرب: التأخير...
فإن قال قائل: فإن الله قد قال له إذ سأله الإنظار إلى يوم يُبعثون: "إنّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ "في هذا الموضع، فقد أجابه إلى ما سأل؟ قيل له: ليس الأمر كذلك، وإنما كان مجيبا له إلى ما سأل لو كان قال له: إنك من المنظرين إلى الوقت الذي سألت، أو إلى يوم البعث، أو إلى يوم يبعثون، أو ما أشبه ذلك مما يدلّ على إجابته إلى ما سأل من النظرة. وأما قوله: "إنّكَ مِنَ المُنْظرِينَ فلا دليل فيه لولا الآية الأخرى التي قد بين فيها مدة إنظاره إياه إليها، وذلك قوله: فإنّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ إلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ" على المدة التي أنظره إليها، لأنه إذا أنظره يوما واحدا أو أقلّ منه أو أكثر، فقد دخل في عداد المنظرين وتمّ فيه وعد الله الصادق، ولكنه قد بين قدر مدّة ذلك بالذي ذكرناه، فعلم بذلك الوقت الذي أنظر إليه... فتأويل الكلام: قال إبليس لربه: أنظرني أي أخرني وأجّلْني، وأنسئ في أجلي، ولا تُمِتْني إلى يوم يُبعثون، يقول: إلى يوم يُبعث الخلق. فقال تعالى ذكره: "إنّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ" إلى يوم ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله.
فإن قال قائل: فهل أحد منظر إلى ذلك اليوم سوى إبليس فيقال له إنك منهم؟ قيل: نعم، من لم يقبض الله روحه من خلقه إلى ذلك اليوم ممن تقوم عليه الساعة، فهم من المنظرين بآجالهم إليه ولذلك قيل لإبليس: إنَكَ مِنَ المُنْظَرِينَ بمعنى: الساعة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والإنظار: الإمهال إلى مدة فيها النظر في الأمر طال أم قصر...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أجاب دعاءَه في الحال، ولكن كان ذلك مكراً به لأنه مكَّنه من مخالفة أمره إلى يوم القيامة، فلم يَزِدْه بذلك التمكين إلا شِقوةً. ليعلمَ الكافةُ أنه ليس كل إجابة للدعاء نعمةً ولطفاً بل قد تكون بلاءً ومكراً...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لم أجيب إلى استنظاره، وإنما استنظر ليفسد عباده ويغويهم؟ قلت: لما في ذلك من ابتلاء العباد، وفي مخالفته من أعظم الثواب، وحكمه حكم ما خلق في الدنيا من صنوف الزخارف وأنواع الملاذ والملاهي، وما ركب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما علم أن الحسد قد أبعده ونزل به عن ساحة الرضى وأقعده، تمادى فيه فسأل ما يتسبب به إلى إنزال المحسودين عن درجاتهم العالية إلى دركته السافلة، ولم يسأل بشقاوته فيما يعليه من دركته السافلة إلى درجاتهم العالية، وذلك بأن {قال} أي إبليس، وهو استئناف؛ ولما كان السياق -ولاسيما الحكم بالصغار العاري عن تقييد- يأبى لأن يكون سبباً لسؤاله الانتظار، ذكره بصيغة الإحسان فقال: {أنظرني} أي بالإمهال، أي اجعلني موجوداً بحيث أنظر وأتصرف في زمن ممتد {إلى يوم يبعثون*} أي من القبور، وهو يوم القيامة، وكان اللعين طلب بهذا أنه لا يموت، فإن ذلك الوقت ليس وقتاً للموت، إنما هو وقت إفاضة الحياة الأبدية في شقاوة أو سعادة، فأعلم سبحانه أنه حكم له بالانتظار، لكن لا على ما أراده ولا على أنه إجابة له، ولكن هكذا سبق في الأزل في حكمه في قديم علمه، وإليه يرشد التعبير بقوله: {قال إنك من المنظرين}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
رب أخرني وأمهلني إلى يوم يبعث آدم وذريته، فأكون أنا وذريتي أحياء ما داموا أحياء وأشهد انقراضهم وبعثهم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لمّا كوّن الله فيه الصّغار والحقارة بعد عزّة الملَكية وشرفها، انقلبت مرامي همّته إلى التّعلق بالسّفاسف (إذَا ما لم تكن إبل فمعْزَى) فسأل النَّظرة بطول الحياة إلى يوم البعث، إذ كان يعلم قبل ذلك أنّه من الحوادث الباقية لأنّه من أهل العالم الباقي، فلمّا أهبط إلى العالم الأرضي ظنّ أنّه صائر إلى العدم فلذلك سأل النظرة إبقاء لما كان له من قبلُ، وإذ قد كان ذلك بتقدير الله تعالى وعلِمه، وبَدر من إبليس طلب النظرة، قال الله تعالى: {إنك من المنظرين} أي إنّك من المخلوقات الباقية...
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.