ومن ثم يجيبهم نوح الجواب الذي يقرر القيم الثابتة ؛ ويحدد اختصاص الرسول ، ويدع أمر الناس وحسابهم لله على ما يعملون .
( قال : وما علمي بما كانوا يعملون ? إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون . وما أنا بطارد المؤمنين . إن أنا إلا نذير مبين ) .
والكبراء يقولون دائما عن الفقراء : إن عاداتهم وأخلاقهم لا ترضي العلية ، ولا تطاق في أوساط الطبقة الراقية ذات الحس المرهف والذوق اللطيف ! فنوح يقول لهم : إنه لا يطلب إلى الناس شيئا سوى الإيمان . وقد آمنوا . فأما عملهم قبله فموكول إلى الله ، وهو الذي يزنه ويقدره . ويجزيهم على الحسنات والسيئات . وتقدير الله هو الصحيح ( لو تشعرون )بالقيم الحقة التي ترجح في ميزان الله . وما وظيفتي إلا الإنذار والإفصاح : ( إن أنا إلا نذير مبين ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مّبِينٌ * قَالُواْ لَئِنْ لّمْ تَنْتَهِ يَنُوحُ لَتَكُونَنّ مِنَ الْمُجْرِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نوح لقومه : وما أنا بطارد من آمن بالله واتبعني على التصديق بما جئت به من عند الله إنْ أنا إلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ يقول : ما أنا إلا نذير لكم من عند ربكم أنذركم بأسه ، وسطوته على كفركم به مبين : يَقول : نذير قد أبان لكم إنذاره ، ولم يكتمكم نصيحته قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنّ مِنَ المَرْجُومِينَ يقول : قال لنوح قومهُ : لئن لم تنته يا نوح عما تقول ، وتدعو إليه ، وتعيب به آلهتنا ، لتكوننّ من المشتومين ، يقول : لنشتمك .
{ إن أنا إلا نذير مبين } استئناف في معنى التعليل ، أي لأن وصفي يصرفني عن موافقتكم .
والمُبِين : من أبان المتعدي بمعنى بَيَّن ووضَّح . والقصر إضافي وهو قصر موصوف على صفة .
وقد تقدم في سورة هود حكاية موقف لنوح عليه السلام مع قومه شبيه بما حكي هنا وبين الحكايتين اختلاف مَّا ، فلعلهما موقفان أو هما كلامان في موقف واحد حكي أحدُهما هنالك والآخر هنا على عادة قصص القرآن ، فما في إحدى الآيتين من زيادة يحمل على أنه مكمل لما في الأخرى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن أنا} يعني: ما أنا {إلا نذير مبين} يعني: رسول بيّن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"إنْ أنا إلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ" يقول: ما أنا إلا نذير لكم من عند ربكم أنذركم بأسه، وسطوته على كفركم به "مبين": يَقول: نذير قد أبان لكم إنذاره، ولم يكتمكم نصيحته.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وما عليّ إلا أن أنذركم إنذاراً بيناً بالبرهان الصحيح الذي يتميز به الحق من الباطل، ثم أنتم أعلم بشأنكم.
ثم بين أن غرضه بما حمل من الرسالة يمنع من ذلك بقوله: {إن أنا إلا نذير مبين} والمراد إني أخوف من كذبني ولم يقبل مني، فمن قبل فهو القريب، ومن رد فهو البعيد.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
يعني: إن الله ما أرسلني أخص ذوي الغنى دون الفقراء..
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
كالعلة له أي ما أنا إلا رجل مبعوث لإنذار المكلفين عن الكفر والمعاصي سواء كانوا أعزاء أو أذلاء فكيف يليق بي طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء، أو ما عليّ إلا إنذاركم إنذارا بينا بالبرهان الواضح فلا عليّ أن أطردهم لاسترضائكم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم علل ذلك بقوله: {إن} أي ما {أنا إلا نذير} أي محذر، لا وكيل مناقش على البواطن، ولا متعنت على الاتباع {مبين} أوضح ما أرسلت به فلا أدع فيه لبساً.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
ثم بين وظيفة الرسول فقال: {إن أنا إلا نذير مبين} أي إنما بعثت منذرا ومخوفا بأس الله وشديد عذابه، فمن أطاعني كان مني وأنا منه، شريفا كان أو وضيعا، جليلا كان أو حقيرا. ولما أجابهم بهذا الجواب وأيسوا مما راموا لجؤوا إلى التهديد.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ويلاحظ أن قول نوح عليه السلام فيه تهديد لهم، ولذا اقتصر على ذكر الإنذار، ولم يذكر التبشير، مع أن أصل الرسالة للأمرين.
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
{إن أنا إلا نذير مبين} فلست بجبار ولا ذي سلطان فأطرد الناس. وظيفتي أنى أنذر الناس عاقبة الكفر والمعاصي ليقلعوا عن ذلك فينجوا من عذاب الله ويسلموا.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
فمن سمع إنذاري وعاد إلى الصراط المستقيم بعد ضلاله، فهو من أتباعي كائناً من كان، وفي أي مستوى طبقي ومقام اجتماعي أو مادي! وممّا ينبغي الالتفات إليه أن هذا الإِيراد لم يتعرّضْ له نوحٌ النّبي الذي هو أول الرسل من أولي العزم فحسب، بل ووُجهَ إلى النّبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر الأنبياء به، فالأغنياء كانوا ينظرون بنظاراتهم الفكرية السوداء شخصيات هؤلاء الفقراء البيضاء، فيرونها سوداء، فيطلبون طردهم دائماً. ولم يقبلوا بربّ ولا نبي يتبعه مثل هؤلاء العباد الفقراء!...وهذا الإيراد أو الإشكال يوردونه حتى على قادةِ الحق والأدلاّء على الهدى في كل عصر وزمان، وهو أن معظم أتباعكم المستضعفون! أو الحفاة الجائعون. إنّهم يريدون أن يعيبوا بكلامهم هذا الرسالة والمذهب، مع أنّهم من حيث لا يشعرون، يمدحون ويطرون ذلك المذهب ويوقّعون على أصالته.