القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يُكَذّبُ بِهِ إِلاّ كُلّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ * كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وما يكذّب بيوم الدين إلاّ كُلّ مُعْتَدٍ اعتدى على الله في قوله ، فخالف أمره ، أثِيمٍ بربه ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ للْمُكَذّبِينَ قال الله : وَما يُكَذّبُ بِهِ إلاّ كُلّ مُعْتَدٍ أثِيمٍ : أي بيوم الدين ، إلاّ كلّ معتد في قوله ، أثيم بربه .
فالتكذيب بيوم الجزاء هو منشأ الإقدام على السيئات والجرائم ، ولذلك أعقبه بقوله : { وما يكذب به إلا كل معتدٍ أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين } أي أن تكذيبهم به جهل بحكمة الله تعالى في خلق الناس وتكليفهم إذ الحكمة من خلق الناس تقتضي تحسين أعمالهم وحفظ نظامهم . فلذلك جاءتهم الشرائع آمرة بالصلاح وناهية عن الفساد . ورتب لهم الجزاء على أعمالهم الصالحة بالثواب والكرامة ، وعلى أعمالهم السيئة بالعذاب والإهانة . كل على حسب عمله : فلو أهمل الخالق تقويم مخلوقاته وأهمل جزاء الصالحين والمفسدين ، لم يكن ذلك من حكمة الخلق قال تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى اللَّه الملك الحق } [ المؤمنون : 115 ، 116 ] .
وقد ذكر للمكذبين بيوم الدين ثلاثة أوصاف وهي : معتد ، أثيم ، يقول إن الآيات أساطير الأولين .
والاعتداء : الظلم ، والمعتدي : المشرك والكافر بما جاءه من الشرائع لأنهم اعتدوا على الله بالإشراك ، وعلى رسله بالتكذيب ، واعتدوا على دلائل الحق فلم ينظروا فيها أو لم يعملوا بها .
والأثيم : مبالغة في الآثِم ، أي كثير الإثم .
وصيغة القصر من النفي والاستثناء تفيد قصر صفة التكذيب بيوم الدين على المعتدين الآثمين الزاعمين القرآن أساطير الأولين .
فهو قصر صفة على موصوف وهو قصر حقيقي لأن يوم الدين لا يكذب به إلا غير المتدينين المشركون والوثنيون وأضرابهم ممن جمع الأوصاف الثلاثة ، وأعظمها التكذيب بالقرآن فإن أهل الكتاب والصابئة لا يكذبون بيوم الدين ، وكثير من أهل الشرك لا يكذبون بيوم الدين مثل أصحاب ديانة القبط .
فالذين يكذبون بيوم الدين هم مشركو العرب ومن شابههم مثل الدّهريين فإنهم تحققت فيهم الصفتان الأولى والثانية وهي الاعتداء والإثم وهو ظاهر ، وأما زعم القرآن أساطيرَ الأولين فهو مقالة المشركين من العرب وهم المقصود ابتداء وأما غيرهم ممن لم يؤثر عنهم هذا القول فهم متهيئون لأن يقولوه ، أو يقولوا ما يساويه أو يَؤُول إليه ، لأن من لم يعرض عليهم القرآنُ منهم لو عرض عليه القرآن لكذَّب به تكذيباً يساوي اعتقاد أنه من وضع البشر ، فهؤلاء وإن لم يقولوا القرآن أساطير الأولين فظنهم في القرآن يساوي ظن المشركين فنزلوا منزلة من يقوله .
ولك أن تجعل القصر ادعائياً ولا تلتفت إلى تنزيل من لم يقل ذلك في القرآن . ومعنى الادعاء أن من لم يُؤثَر عنهم القول في القرآن بأنه أساطير الأولين قد جعل تكذيبهم بيوم الدين كَلا تكذيببٍ مبالغة في إبطال تكذيب المشركين بيوم الدين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما يكذّب بيوم الدين" إلاّ كُلّ مُعْتَدٍ "اعتدى على الله في قوله، فخالف أمره، أثِيمٍ بربه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فالمعتدي هو الذي يتعدى حدود الله تعالى، والأثيم الذي يأثم بربه، فتكون مجاوزته عن الحدود والتأثيم بربه، هو الذي يحمله على التكذيب، وإلا لو قام بحفظ حدوده، لم يأثم بربه، لكان لا يكذب بيوم الدين، أو يكون فيه إخبار أن المكذب به معتد أثيم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(وما يكذب به) أي ليس يكذب بيوم الجزاء (إلا كل معتد أثيم) فالمعتدي: المتجاوز الحق إلى الباطل...
{وما يكذب به إلا كل معتد أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} ومعناه أنه لا يكذب بيوم الدين إلا من كان موصوفا بهذه الصفات الثلاثة (فأولها): كونه معتديا، والاعتداء هو التجاوز عن المنهج الحق.
(وثانيها): الأثيم وهو مبالغة في ارتكاب الإثم والمعاصي...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وما} أي والحال أنه ما {يكذب} أي يوقع التكذيب {به إلا كل معتد} أي متجاوز للحد في العناد أو الجمود والتقليد لأن محطه نسبة من ثبت بالبراهين القاطعة أنه على كل شيء قدير إلى العجز عن إعادة ما ابتدأه {أثيم} أي مبالغ في الانهماك في الشهوات الموجبة للآثام، وهي الذنوب، فاسود قلبه فعمي بنظر الشهوات التي حفت بها النار عما عداها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالتكذيب بيوم الجزاء هو منشأ الإقدام على السيئات والجرائم، ولذلك أعقبه بقوله: {وما يكذب به إلا كل معتدٍ أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} أي أن تكذيبهم به جهل بحكمة الله تعالى في خلق الناس وتكليفهم إذ الحكمة من خلق الناس تقتضي تحسين أعمالهم وحفظ نظامهم. فلذلك جاءتهم الشرائع آمرة بالصلاح وناهية عن الفساد. ورتب لهم الجزاء على أعمالهم الصالحة بالثواب والكرامة، وعلى أعمالهم السيئة بالعذاب والإهانة. كل على حسب عمله: فلو أهمل الخالق تقويم مخلوقاته وأهمل جزاء الصالحين والمفسدين، لم يكن ذلك من حكمة الخلق...وقد ذكر للمكذبين بيوم الدين ثلاثة أوصاف وهي: معتد، أثيم، يقول إن الآيات أساطير الأولين. والاعتداء: الظلم، والمعتدي: المشرك والكافر بما جاءه من الشرائع لأنهم اعتدوا على الله بالإشراك، وعلى رسله بالتكذيب، واعتدوا على دلائل الحق فلم ينظروا فيها أو لم يعملوا بها. والأثيم: مبالغة في الآثِم، أي كثير الإثم. وصيغة القصر من النفي والاستثناء تفيد قصر صفة التكذيب بيوم الدين على المعتدين الآثمين الزاعمين القرآن أساطير الأولين. فهو قصر صفة على موصوف وهو قصر حقيقي لأن يوم الدين لا يكذب به إلا غير المتدينين المشركون والوثنيون وأضرابهم ممن جمع الأوصاف الثلاثة، وأعظمها التكذيب بالقرآن فإن أهل الكتاب والصابئة لا يكذبون بيوم الدين، وكثير من أهل الشرك لا يكذبون بيوم الدين مثل أصحاب ديانة القبط. فالذين يكذبون بيوم الدين هم مشركو العرب ومن شابههم مثل الدّهريين فإنهم تحققت فيهم الصفتان الأولى والثانية وهي الاعتداء والإثم وهو ظاهر، وأما زعم القرآن أساطيرَ الأولين فهو مقالة المشركين من العرب وهم المقصود ابتداء وأما غيرهم ممن لم يؤثر عنهم هذا القول فهم متهيئون لأن يقولوه، أو يقولوا ما يساويه أو يَؤُول إليه، لأن من لم يعرض عليهم القرآنُ منهم لو عرض عليه القرآن لكذَّب به تكذيباً يساوي اعتقاد أنه من وضع البشر، فهؤلاء وإن لم يقولوا القرآن أساطير الأولين فظنهم في القرآن يساوي ظن المشركين فنزلوا منزلة من يقوله...
والمعتدي هو الذي يجترئ على الحق، ويوم الدين حق، فالذي يكذب به يكون معتدياً؛ لأن الله ذكر أصلاً عقدياً أنت تريد أن تخالفه، وأثيم لأن عدم إيمانه به، وإعراضه عنه جعله يلج في الإثم؛ لأن هناك فرقاً بين الآثم والأثيم، فإن الآثم هو الذي قد يفعل الإثم، أم الأثيم فهو الذي قد اعتاد الإثم، فأصبح الإثم ملكة عنده، وما دامت عنده ملكة الإثم فسيتكرر منه ذلك الإثم لا محالة.
إن الذي يكذب بيوم الدين رغم كل تلك الآيات التي تذكره بذلك اليوم، وتذكره بهوله، وتذكره بأنه حق، عندما يقرؤها يكذب نفسه، فهذا الإنسان ليس عنده قدرة على أن يحمل نفسه على مشقة التكاليف، وعندما لا يجد من نفسه القدرة على حمل مشقة التكاليف تجده يكذب نفسه، فيقول: إن اليوم الآخر ليس له وجود، فنقول له: إن اليوم الآخر له وجود، ولكن أنت الذي تكذب نفسك؛ لأنك غير قادر على أن تحمل نفسك على مشقة التكاليف؛ ولذلك تريد أن تجعل لنفسك شيئاً من الأمل في أن يكون اليوم الآخر غير موجود، ولكن الرسل كلهم حذروا أقوامهم منه، جميع الأنبياء تحدثوا عن اليوم الآخر.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
فإنكار القيامة لا يستند على المنطق السليم والتفكير الصائب والاستدلال العقلي، بل هو نابع من حبّ الاعتداء وارتكاب الذنوب والآثام (الصفة المشبهة «أثيم» تدل على استمرار الشخص في ارتكاب الذنوب). فهم يريدون الاستمرار بالذنوب والإيغال بالاعتداءات وبكامل اختيارهم، ومن دون أيّ رادع يردعهم من ضمير أو قانون، وهذا الحال شبيه ما أشارت إليه الآية (5) من سورة القيامة: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه)، وعليه، فهو يكذّب بيوم الدين. وعلى هذا الأساس، فإنّ للممارسات السيئة أثر سلبي على عقيدة الإنسان، مثلما للعقيدة من أثر على سلوكية وتوجيهات الإنسان، وهذا ما سيتوضح أكثر في تفسير الآيات القادمة...