القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ يَقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَىَ مَكَانَتِكُمْ إِنّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مّقِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لمشركي قومك ، الذي اتخذوا الأوثان والأصنام آلهة يعبدونها من دون الله اعملوا أيها القوم على تمكنكم من العمل الذي تعملون ومنازلكم ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : عَلى مَكانَتِكُمْ قال : على ناحيتكم إنّي عامِلٌ كذلك على تؤدة على عمل من سلف من أنبياء الله قبلي فَسَوْفَ تَعْلَمونَ إذا جاءكم بأس الله ، من المحقّ منا من المبطل ، والرشيد من الغويّ .
{ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم } على حالكم ، اسم للمكان استعير للحال كما استعير هنا وحيث من المكان للزمان ، وقرئ " مكاناتكم " { إني عامل } أي على مكانتي فحذف للاختصار والمبالغة في الوعيد ، والإشعار بأن حاله لا يقف فإنه تعالى يزيده على مر الأيام قوة ونصرة ولذلك توعدهم بكونه منصورا عليهم في الدارين فقال : { فسوف تعلمون } .
ثم أمره تعالى بأن يصدع بالاتكال على الله ، وأنه حسبه من كل شيء ومن كل ناصر ، ثم أمره بتوعدهم في قوله : { اعملو على مكانتكم إني عامل } ما رأيتموه متمكناً لكم على حالتكم التي استقر رأيكم عليها .
وقرأ الجمهور : «مكانتكم » بالإفراد . وقرأ «مكاناتكم » بالجمع : الحسن وعاصم{[9902]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل يا قوم اعملوا على مكانتكم} يعني على جديلتكم التي أنتم عليها.
{إني عامل} على جديلتي التي أمرت بها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لمشركي قومك، الذي اتخذوا الأوثان والأصنام آلهة يعبدونها من دون الله اعملوا أيها القوم على تمكنكم من العمل الذي تعملون ومنازلكم... "إنّي عامِلٌ "كذلك على تؤدة على عمل من سلف من أنبياء الله قبلي.
"فَسَوْفَ تَعْلَمونَ" إذا جاءكم بأس الله، من المحقّ منا من المبطل، والرشيد من الغويّ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: على الإياس منهم أنهم لا يؤمنون، ولا يجيبون إلى ما دعوا إليه بعد ما أقيم عليهم الحُجج والبراهين. كأنه يقول: أنيبوا أنتم إلى دينكم، واعملوا له، ونُنيب نحن إلى ديننا، ونعمل له، فسوف تعلمون أننا على الحق، وهو كقوله: {لكم دينكم ولي دين} [الكافرون: 6] أي لا أدين أنا بدينكم، ولا أنتم تدينون بديننا، ولكن يلزم كل منا دينه الذي عليه، فعلى ذلك الأول.
والثاني: على التوبيخ لهم والتعيير يقول: اعملوا على مكانتكم أنتم مما تقدرون من الكيد والمكر لي، وأنا عامل ذلك بمكانتكم كقوله عز وجل: {ثم كيدون فلا تُنظرونِ} [الأعراف: 195]
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
سوف ينكشف رِبْحُنا وخسرانكم، وسوف تظهر زيادتنا ونقصانكم، وسوف نطالبكم فلا جوابَ لكم، ونُعَذِّبُكُم فلا شفيعَ لكم، ونُدَمِّرُ عليكم فلا صريخَ لكم.
أنتم تعتقدون في أنفسكم أنكم في نهاية القوة والشدة، فاجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم، فإني عامل أيضا في تقرير ديني...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{إني عامل} أي على مكانتي فحذف للاختصار والمبالغة في الوعيد، والإشعار بأن حاله لا يقف، فإنه تعالى يزيده على مر الأيام قوة ونصرة؛ ولذلك توعدهم بكونه منصورا عليهم في الدارين فقال: {فسوف تعلمون}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانوا مع هذه الحجج القاطعة، والأدلة القامعة والبراهين الساطعة، التي لا دافع لها بوجه، كالبهائم لا يبصرون إلا الجزئيات حال وقوعها، قال مهدداً مع الاستعطاف: {قل يا قوم} أي يا أقاربي الذين أرتجيهم عند الملمات، وفيهم كفاية في القيام بما يحاولونه.
{اعملوا} أي افعلوا افعالاً مبنية على العلم.
{على مكانتكم} أي حالتكم التي ترتبتم فيها وجمدتم عليها؛ لأنه جبلة لكم من الكون والمكنة لتبصروا حقائق الأمور، فتنتقلوا عن أحوالكم السافلة إلى المنازل العالية، فكأنه يشير إلى أنهم كالحيوانات العجم، لا اختيار لهم ويعرّض بالعمل الذي مبناه العلم والمكانة التي محطها الجمود بأن أفعالهم ليس فيها ما ينبني على العلم، وإنما هي جزاف لا اعتبار لها ولا وزن لها.
ثم أجاب من عساه أن يقول له منهم: فماذا تعمل أنت؟ بقوله: {إني عامل} على كفاية الله لي، ليس لي نظر إلى سواه، ولا أخشى غيره، وليس لي مكانة ألتزم الجمود عليها، بل أنا واقف على ما يرد من عند الله، إن نقلني انتقلت وإن أمرني بغير ذلك امتثلت، وأنا مرتقب كل وقت للزيادة، ثم سبب عن قول من لعله يقول منهم: وماذا عساه يكون قوله؟ إيذاناً بأنه على ثقة من أمره؛ لأن المخبر له به الله: {فسوف تعلمون} أي بوعد لا خلف فيه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما أبلغهم الله من الموعظة أقصى مبلغ، ونصب لهم من الحجج أسطع حجة، وثبَّت رسوله صلى الله عليه وسلم أرسخ تثبيت، لا جرم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يوادعهم موادعة مستقرِب النصر، ويواعدهم ما أُعد لهم من خسر...
هنا تأمل هذا النداء: {يٰقَوْمِ} فبعد عنادهم وإصرارهم على باطلهم وعدم قبولهم للحجج والبراهين ما يزال الحق سبحانه يتحنَّن إليهم، فيأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يناديهم بهذا النداء الحبيب: (يا قوم) يعني: أنا لستُ غريباً عنكم، وأنتم أهلي وعشيرتي التي أعيشُ بينها.
لما دعاهم رسول الله فلم يستجيبوا ولم تفلح معهم الحجج والبراهين التي تثبت بطلان عبادتهم للأصنام، أمره ربه أنْ يقول لهم: {يٰقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُـمْ إِنِّي عَامِلٌ..} معنى: اعملوا على مكانتكم كما تقول لمن لم يستجب لك: اعمل ما بدا لك.
فالمعنى: اعملوا على مكانتكم. يعني: خذوا كلّ إمكانياتكم ضدي. لماذا؟ لأنه متوكل على ربِّه وهو كافيه، فهو لا يقولها مجازفةً ولا استكباراً، إنما يقولها برصيد من قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36].
وكلمة {مَكَانَتِكُـمْ} [الزمر: 39] عندنا مكان ومكانة، المكان هو: الحيز الذي يشغله الشيء. والمكين هو: الذي يشغل المكان، فالكوب مثلاً مكان والماء فيه مكين، فأنت ذاتك لك مكان تشغله حتى لو اضطهدك أحدٌ فأخرجك منه لا بُدَّ أنْ يذهب بك إلى مكان آخر.
فإذا اتسع بك هذا المكان وصارتْ لك سلطة على مكان أوسع منه لك فيه سلطان وأمر ونهي فهذه مكانة، فيقال لمن اتَّسع جاهه وسلطانه: له مكانة. فالتاء الزائدة هنا يسمونها تاء المبالغة...
إذن: فكلمة المكانة هي ما لك عليه سلطانٌ وولاية تُعينك على مرادك...
وقوله: {إِنِّي عَامِلٌ} يعني: أنتم اعملوا على مكانتكم واستطاعتكم في العناد والاضطهاد والإيذاء، فأنا عامل على مكانتي من الدعوة والنُّصْح لكم والحرص على هدايتكم، فهذه رسالتي ولن أتخلَّى عنها، وسوف أبالغ في نَشْرها وأتحمل اضطهادكم لي ولأصحابي، ولن يُثنيني شيء عن مرادي.
وقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} المعلوم هنا: {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} [الزمر: 40] أي: في الدنيا {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [الزمر: 40] أي: في الآخرة، وتأمل هنا كلمة سوف التي تدل على الاستقبال، فلم يَقُلْ حالاً الآن، لأن الإسلام بدأ غريباً وانتشر أول ما انتشر بين الضعفاء والعبيد الذين اضطهدوا وماتوا وأُوذُوا وأُخرجوا من ديارهم وأموالهم في سبيل دعوة الحق.
فأراد الحق سبحانه أن يُمحِّصَ أهل الإيمان الذين يحملون هذه الدعوة، وأنْ يُميز منهم ضعافَ العقيدة، وينفي عنهم أهل الخور والنفاق الذين لا يصلحون لحمل هذه الرسالة، لذلك كان الوحي كل فترة ينزل على رسول الله بأمر عزيز، وكلما نزل أمر من هذه الأمور نفى بعضهم حتى لم يَبْقَ حول رسول الله إلا صِحَاح الإيمان أقوياء العقيدة.
وفي هذه الآية تهديدٌ من رسول الله للقوم المكذِّبين بأحداث سوف تأتي، هذا التهديد دليلٌ على ثقته صلى الله عليه وسلم بأن مَنْ أوحى إليه بهذا التهديد قادرٌ على أن يُبرزه كما أخبر به، وإلا لما قاله رسول الله، لأن الزمن سيكشف صدق هذا التهديد أو عدم صدقه...
وقلنا: إن صدق الرسول في أمور تتعلق بأمته شيء، وصدقه فيما يتعلق بذاته شيء آخر، صدقه فيما يتعلق بذاته آكد، وذكرنا قصة المرأة التي أسلمتْ حينما قرأتْ تفسير قوله تعالى لرسوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] فلما أعطاه ربه الأمان وأنه لن يُغتال من جانب الناس صرف صلى الله عليه وسلم حُراسه ولم يُبْق عليهم مع هذا الوعد، فوقفتْ هذه المرأة وقفةً عقلية وقالت: لو أنه خدع الناس جميعاً ما خدع نفسه، إذن: هذه ثقة من رسول الله بوعد الله.
وقوله تعالى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ولم يقل ترون أو تنظرون؛ لأن العلم أوسع وأعمّ من النظر، فالأحداث التي ستأتي ربما تكون بعيدة من مَرْآهم تَحدث في أماكن أخرى يراها البعض ولا يراها البعض، أما العلم فينقل إليك ما تقع عليه جوارحك، وما تقع عليه جوارح الآخرين.
إذن: بالعلم تأخذ علم الغير، أنت حينما ترى وتعقل تهتدي إلى الحكم بتصوّر العقل، وبالعلم تستفيد بما عقله الآخرون. إذن: فالعلم أوسع دائرةً من معطيات العقل والجوارح.
وقوله: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [الزمر: 40] كلمة مقيم جاءت لترد على كلام سبق أنْ قالوه هم، لأن الحروب عندهم كانت تستمر طويلاً حتى أربعين سنة، وتكون بينهم سجالاً يوم لك ويوم عليك، فربما ظنوا العذاب كذلك فترة وتنتهي، فأراد أنْ يؤكد لهم أن العذاب إذا حَلَّ بهم فليس فيه سجال كسجال الحرب، إنما هو مقيم دائم.