ثم قال تعالى : { علمه شديد القوى } وفيه وجهان أشهرهما عند المفسرين أن الضمير في { علمه } عائدا إلى الوحي أي الوحي علمه شديد القوى والوحي وإن كان هو الكتاب فظاهر وإن كان الإلهام فهو كقوله تعالى : { نزل به الروح الأمين } والأولى أن يقال الضمير عائد إلى محمد صلى الله عليه وسلم تقديره علم محمد شديد القوى جبريل وحينئذ يكون عائدا إلى صاحبكم ، تقديره علم صاحبكم وشديد القوى هو جبريل ، أي قواه العلمية والعملية كلها شديدة فيعلم ويعمل ، وقوله { شديد القوى } فيه فوائد : ( الأولى ) أن مدح المعلم مدح المتعلم فلو قال علمه جبريل ولم يصفه ما كان يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم فضيلة ظاهرة ( الثانية ) هي أن فيه ردا عليهم حيث قالوا أساطير الأولين سمعها وقت سفره إلى الشام ، فقال لم يعلمه أحد من الناس بل معلمه شديد القوى ، والإنسان خلق ضعيفا وما أوتي من العلم إلا قليلا ( الثالثة ) فيه وثوق بقول جبريل عليه السلام فقوله تعالى : { علمه شديد القوى } جمع ما يوجب الوثوق لأن قوة الإدراك شرط الوثوق بقول القائل لأنا إن ظننا بواحد فساد ذهن ثم نقل إلينا عن بعض الأكابر مسألة مشكلة لا نثق بقوله ونقول هو ما فهم ما قال ، وكذلك قوة الحفظ حتى لا نقول أدركها لكن نسيها وكذلك قوة الأمانة حتى لا نقول حرفها وغيرها فقال : { شديد القوى } ليجمع هذه الشرائط فيصير كقوله تعالى : { ذي قوة عند ذي العرش مكين } إلى أن قال : { أمين } ، ( الرابعة ) في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وهي من حيث إن الله تعالى لم يكن مختصا بمكان فنسبته إلى جبريل كنسبته إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإذا علم بواسطته يكون نقصا عن درجته فقال ليس كذلك لأنه شديد القوى يثبت لمكالمتنا وأنت بعد ما استويت فتكون كموسى حيث خر فكأنه تعالى قد علمه بواسطة ثم علمه من غير واسطة كما قال تعالى : { وعلمك ما لم تكن تعلم } وقال صلى الله عليه وسلم : «أدبني ربي فأحسن تأديبي » .
( علمه شديد القوى . ذو مرة فاستوى . وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى . ما كذب الفؤاد ما رأى . أفتمارونه على ما يرى ? ) . .
والشديد القوي ذو المرة [ أي القوة ] ، هو جبريل - عليه السلام - وهو الذي علم صاحبكم ما بلغه إليكم .
وهذا هو الطريق ، وهذه هي الرحلة ، مشهودة بدقائقها : استوى وهو بالأفق الأعلى . حيث رآه محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وكان ذلك في مبدأ الوحي . حين رآه على صورته التي خلقه الله عليها ، يسد الأفق بخلقه الهائل .
شديد القوى : جبريل عليه السلام .
ذو مِرّة : ذو حصافة عقل وقوة عارضة ، من قولهم : أَمْرَرْتُ الحبل ، أي : أحكمت فتله .
فاستوى : فاستقام على صورته التي خلقه الله عليها ، عند حراء في مبدأ النبوة .
وهو بالأفق الأعلى : بالجهة العليا من السماء المقابلة للناظر .
5 ، 6 ، 7- { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى } .
جبريل أمين السماء يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مثل صلصلة الجرس ، وأحيانا يأتيه الوحي مثل دوّى النحل ، وهي حالة غيبية علوية ، يغيب فيها النبي صلى الله علي وسلم عمّن حوله ، ويتحول بكل حواسه وثقله الروحي إلى تلقي الوحي من جبريل ، وجبريل ملاك أمين ، فيفصم جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد وعى ما يقوله من أمر الوحي .
قالت عائشة : ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، وإن جبينه ليتفصَّد عرقا . iv
علَّم محمدا مَلَك شديد القوى هو جبريل عليه السلام ، شديد القوى العلمية والعملية ، وهو ذو قوة وشدّة في الخلق .
ومعنى ذو مرة : ذو حصافة في العقل ، ومتانة في الرأي ، وهو أمين أيّ أمين ، ذو جدارة وهمة بالغة ، في تنفيذ المهام المكلّف بها .
وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم على صورته الحقيقية ، في الأفق الأعلى ، أي في الجهة العليا من السماء ، وهي أفق الشمس ، فسدَّ الأفق عندما جاء بالوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما جاء .
قال الله تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ } . ( التكوير : 19-23 )
وقال تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } . ( الشعراء : 192-195 )
{ عِلْمِهِ } الضمير للرسول والمفعول الثاني محذوف أي القرآن ، أو الوحي ، وجوز أبو حيان كون الضمير للقرآن ، وأن المفعول الأول محذوف أي علمه الرسول عليه الصلاة والسلام { شَدِيدُ القوى } هو جبريل عليه السلام كما قال ابن عباس . وقتادة . والربيع ، فإنه الواسطة في إبداء الخوارق وناهيك دليلاً على شدة قوته أنه قلع قرئ قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء ثم قلبها ، وصاح بثمود صيحة فأصبحوا جاثمين وكان هبوطه على الأنبياء عليهم السلام وصعوده في أسرع من رجعة الطرف ، فهو لعمري أسرع من حركة ضياء الشمس على ما قرروه في الحكمة الجديدة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.