اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{عَلَّمَهُۥ شَدِيدُ ٱلۡقُوَىٰ} (5)

وقوله : «شَدِيدُ القُوَى » قيل : هو جبريل : وهو الظاهر . وقيل : الباري تعالى لقوله : { الرحمان عَلَّمَ القرآن } [ الرحمان : 1 و2 ] و«شَدِيدُ القُوَى » من إضافة الصفة المشبهة لمرفوعها فهي غير حقيقية{[53371]} . والقُوَى جمع القُوَّة .

قوله : «ذُو مِرَّة » المرة القوة والشدة . ومنه : أَمْرَرْتُ الحَبْلَ أي أحكمت فَتْلَهُ . والمَرِيرُ : الحَبْلُ ، وكذلك المَمَرُّ كأنه كرّر فَتْلَهُ مرةً بعد أُخْرَى .

وقال قطرب - ( رحمه الله ) {[53372]} - : «العرب تقول لكل جزل الرأي حَصِيف العَقْلِ : ذُو مِرَّةٍ » وأنشد - ( رحمه الله ) {[53373]} - :

وَإِنِّي لَذُو مِرَّةٍ مُرَّةٍ *** إِذَا رَكِبَتْ خَالَةٌ خَالَهَا{[53374]}

وقال :

قَدْ كُنْتَ قَبْلَ لِقَائِكمْ ذُو مِرَّةٍ *** عندي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ مِيزانُهُ{[53375]}

وقال الجوهري : والمِّرة أحد الطبائع الأربع . والمرة : القوة وشدة العقل أيضاً . ورجل مرير أي قريب ذو مرة قال :

تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فَتَزْدَرِيهِ *** وَحَشْوُ ثِيَابِهِ أَسَدٌ مَرِيرُ{[53376]}

وقال لقيط :

حَتَّى اسْتَمَرَّتْ عَلَى شَزْرٍ مَرِيرَتُهُ *** مُرَّ العَزِيمَةِ لاَ رَتًّا وَلاَ ضَرعَا{[53377]}

فصل

ذو مرة ذو قوة وشدة في خلقه يعني جبريل قال ابن عباس : ذو مِرّة أي ذو منظر حسن . وقال مقاتل : وقيل : ذو كمال في العقل والدين ذو خلق طويل حسن . وقيل : ذو كمال في العقل والدين جميعاً . وقيل : ذو منظر وهيئة عظيمة . فإن قيل : قد تبين كونه ذا قوة بقوله : «شَدِيدُ القُوَى » فكيف قال بعده : ذو مرة إذا فسرنا المرَّة بالقوة ؟ ! .

قال ابن الخطيب : وقوله هنا : ذُو قُوة بدل من «شَدِيدُ القُوَى » وليس وصفاً له تقديره : ذو قوة عظيمة . ووجه آخر وهو أن إفراد «قُوَى » بالذكر ربّما يكون لبيان أن قواه المشهورة شديدة وله قوة أخرى خَصَّه الله بها ، يقال فلانٌ كثيرُ المال وله مال لا يعرفه أحدٌ أي أمواله الظاهرة كثيرة وله مال باطن . ثم قال : على أنَّا نَقُول : المراد ذو شدة وهي غير القوة وتقديره علمه من قواه شديدة وفي ذاته أيضاً شدة فإن الإنسان رُبَّمَا تكون قواه شديدةً وفي جسمه حقارةٌ . ويحتمل أن يكون المراد بقوله : «شديد القوى » قوته في العلم وبقوله : «ذو مرة » أي شدة في جسمه فقدم العِلْميَّة على الجِسْمِيَّة كقوله تعالى : { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم }{[53378]} [ البقرة : 247 ] .

وقوله : «فَاسْتَوَى » يعني جبريل في خلقه . قال مكي{[53379]} : اسْتَوَى يقع للواحد وأكثر ما يقع من اثنين ولذلك جعل الفَرَّاءُ الضمير لاثنين{[53380]} .

قوله : { وَهُوَ بالأفق الأعلى } في الضمير وجهان :

أظهرهما : أنه مبتدأ و«بِالأُفُقِ » خبره{[53381]} . والضمير لجبريل أو للنبي - صلى الله عليه وسلم - . ثم في هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أن هذه الجملة حال من فاعل «استوى »{[53382]} . قاله مكي{[53383]} .

والثاني : أنها مستأنفة . أخبر الله تعالى بذلك .

والثالث : أن «وَهُوَ » معطوف على الضمير المستتر في «اسْتَوَى »{[53384]} وضمير «اسْتَوَى » و«هُوَ » إما أن يكونا لله تعالى . وهو قول الحسن{[53385]} وقيل : ضمير استوى لجبريل و " هو " لمحمد - صلى الله عليه وسلم -{[53386]} . قال البغوي في توجيه هذا القول : أكثر كلام العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا أن يظهروا كناية المعطوف فيه فيقولون : اسْتَوَى هُوَ وَفُلانٌ وقَلَّ ما يقولون : اسْتَوَى وفُلاَنٌ . ونظير هذا قوله عز وجل : { أَئذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَا } [ النمل : 67 ] عطف «الآباء » على المكنيّ في «كُنَّا » من غير إظهار «نَحْنُ » . ومعنى الآية استوى جبريل ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - ليلة المعراج «بالأُفُقِ الأَعْلَى » ، وهو أقصى الدنيا عند مطلع الشمس{[53387]} .

وقيل : ضمير «استوى » لمحمد و «هو » لجبريل{[53388]} . وهذا الوجه الثاني يتمشى على قول الكوفيين{[53389]} لأن فيه العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير تأكيد ، ولا فاصل . وهذا الوجه منقول عن الفراء{[53390]} والطبري{[53391]} .

وإذَا قِيلَ : بأن الضميرين أعني «اسْتَوَى » و«هُوَ » لجبريل فمعناه قام في صورته التي خلقه الله فيها { وهو بالأفق الأعلى } ، وذلك أن جبريل كان يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صورة الآدميين كما كان يأتي النبيين ، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرِيهُ نفسه في صورته التي جُبِلَ عليها فأراه نفسه مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى وهو جانب المشرق وذلك أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان بِحرَاءَ فطلع له جبريلُ من المَشْرِق فسدَّ الأرض من المَغْرِب ، فخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَغْشِيًّا عليه فنزل جبريل في صورة الآدميين فضمه إلى نفسه ، وجعل يمسح التراب عن وجهه وهو قوله : { ثُمَّ دَنَا فتدلى } .

وأما في السماء فعند سدرة المنتهى ، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلاَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم -{[53392]} .

وقيل : معنى : «فَاسْتَوَى » أي استوى القرآن في صدره . وعلى هذا فيه وجهان :

أحدهما : فاستوى أي فاعتدل في قوته .

الثاني : في رسالته . نقله القرطبي عن المَاوَرْدِي . قال : وعلى هذا يكون تمام الكلام ذو مرة ، وعلى الثاني شَدِيد القوى .

وقيل : اسْتَوَى أي ارتفع . وفيه على هذا وجهان :

أحدهما : أنه جبريل - عليه الصلاة والسلام - أي ارتفع إلى مكانه .

الثاني : أنه النبي - عليه الصلاة والسلام - أي ارتفع بالمعراج .

وقيل : معناه استوى أي الله عز وجل استوى على العرش . قاله الحسن{[53393]} .


[53371]:أي ليست محضة فهي في تقدير الانفصال، كما تسمى إضافة لفظية والإضافة تلك المضاف فيها صفة تشبه المضارع في كونها مرادا بها الحال أو الاستقبال. وهذه الإضافة لا تفيد المضاف تعريفا وتسمى تلك الإضافة لفظية لأنها أفادت أمرا لفظيا وهو التخفيف بحذف التنوين وغير محضة كما سبق لأنها في تقدير الانفصال فإن المضاف فيها لا بد أن يكون وصفا عاملا وكثيرا ما يرفع ضميرا مستترا. بتصرف من "ضياء السّالك إلى أوضح المسالك" 2/324 إلى 328.
[53372]:زيادة من (أ) الأصل.
[53373]:كذلك.
[53374]:هذا البيت من المتقارب وأنشده قطرب فما نقله أبو حيان في البحر 8/154. والشاهد في "مُرّة" حيث معناها العقل الممتاز والقطع بالرأي القوي كما أوضح.
[53375]:من الكامل، ولم أعرف قائله، وشاهده: في "مِرّة" معناها حصافة العقل ورجاحته. انظر القرطبي 17/86، وفتح القدير 5/105.
[53376]:من الوافر للعباس بن مرادس وفي تاج العروس: وفي أثوابه رجل مزير. ويروى: أسد مزير. والمزير: شديد القلب القوي النافذ في الأمور. وعلى الروايتين الأخيرتين لا شاهد، فالشاهد على الرواية الأولى حيث يراد بالمرير القوي، وانظر التاج "مرر" والقرطبي 17/86، والصّحاح (م ر ر).
[53377]:من البسيط للقيط بن زرارة. والرّتة ردة قبيحة في اللسان من العيب وما في الديوان: "لا قحما" والقحم الشيخ الهرم يعتريه خرق وخرف، والضّرع اللين الذليل والبيت بعد واضح. وانظر اللغة في اللسان والصحاح "مرر" والشاهد كسابقه في المريرة حيث أن معناها القوة وانظر القرطبي 17/86.
[53378]:انظر تفسير الرازي 28/285.
[53379]:مشكل الإعراب له 2/330.
[53380]:من بقية كلامه وانظر معاني القرآن للفراء 3/95 والقرطبي 17/85.
[53381]:والجملة حال من فاعل "استوى". وانظر التبيان 1186 والمشكل 2/330.
[53382]:وهو قول أبي البقاء السابق أيضا.
[53383]:مشكل الإعراب 2/330.
[53384]:وضعف هذا أبو البقاء في التبيان السابق قال: إذ لو كان كذلك لقال تعالى: فاستوى هو وهو.
[53385]:البحر المحيط 8/157.
[53386]:وهو مذهب الجمهور. وانظر البحر والكشف والتبيان المراجع السابقة.
[53387]:معالم التنزيل للبغوي 6/256. وهذا الوجه جائز ولكنه قليل، وانظر معاني القرآن للفراء 3/95.
[53388]:نقله في البحر 8/158.
[53389]:رجح الفراء في المعاني القول الأكثر مجيئا حيث يقول: "وأكثر كلام العرب أن يقولوا: استوى هو وأبوه ولا يكادون يقولون: استوى وأبوه. وهو جائز لأن الفعل مضمرا". انظر المعاني 3/95.
[53390]:معاني القرآن له 3/95.
[53391]:جامع البيان له سورة النجم.
[53392]:نقل هذا الوجه بتفصيلاته وتقييداته الإمام البغوي في معالم التنزيل 6/256، وكذلك الخازن في لباب التأويل 6/256.
[53393]:ذكر كل هذه الأقوال في الجامع الإمام القرطبي. انظر تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن 17/87 و88