وقوله : { إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ } أي : متصلة بالأغلال ، بأيدي الزبانية يسحبونهم على وجوههم ، تارة إلى الحميم وتارة إلى الجحيم ؛ ولهذا قال : { يُسْحَبُونَ . فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } ، كما قال : { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 43 ، 44 ] . وقال بعد ذكْره أكلهم الزقوم وشربهم الحميم : { ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ } [ الصافات : 68 ] وقال { وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ . فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ . وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ . لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ } إلى أن قال : { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ . لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ . فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ . فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ . فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ . هَذَا نزلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ } [ الواقعة : 41 - 56 ] . وقال { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ . طَعَامُ الأثِيمِ . كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ . كَغَلْيِ الْحَمِيمِ . خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ . ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ . ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ . إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } [ الدخان : 43 - 50 ] ،
أي : يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ ، والتحقير والتصغير ، والتهكم والاستهزاء بهم .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن منيع ، حدثنا منصور بن عمار ، حدثنا بشير {[25595]} بن طلحة الخزامي ، عن خالد بن دُرَيْك ، عن يعلى بن مُنْيَه - رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال : " ينشئ الله سحابة لأهل النار سوداء مظلمة ، ويقال : يا أهل النار ، أي شيء تطلبون ؟ فيذكرون بها سحاب الدنيا فيقولون : نسأل بَرْد الشراب ، فتمطرهم أغلالا تزيد في أغلالهم ، وسلاسل تزيد في سلاسلهم ، وجمرا يُلْهِبُ النار عليهم " . هذا حديث غريب{[25596]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ كَذّبُواْ بِالْكِتَابِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأغْلاَلُ فِيَ أَعْنَاقِهِمْ والسّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ * ثُمّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلّواْ عَنّا بَل لّمْ نَكُنْ نّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلّ اللّهُ الْكَافِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون الذين كذّبوا بكتاب الله ، وهو هذا القرآن و«الذين » الثانية في موضع خفض ردا لها على «الذين » الأولى على وجه النعت وبِمَا أرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا يقول : وكذّبوا أيضا مع تكذيبهم بكتاب الله بما أرسلنا به رسلنا من إخلاص العبادة لله ، والبراءة مما يعبد دونه من الاَلهة والأنداد ، والإقرار بالبعث بعد الممات للثواب والعقاب .
وقوله : فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إذِ الأغْلالِ في أعْناقِهِمْ والسّلاسِلُ ، وهذا تهديد من الله المشركين به يقول جلّ ثناؤه : فسوف يعلم هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله ، المكذّبون بالكتاب حقيقة ما تخبرهم به يا محمد ، وصحة ما هم به اليوم مكذبون من هذا الكتاب ، حين تجعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم في جهنم . وقرأت قراء الأمصار : والسلاسلُ ، برفعها عطفا بها على الأغلال على المعنى الذي بيّنت . وذُكر عن ابن عباس أنه كان يقرؤه «والسّلاسِلُ يُسْحَبُونَ » بنصب السلاسل في الحميم . وقد حُكي أيضا عنه أنه كان يقول : إنما هو وهم في السلاسل يسحبون ، ولا يجيز أهل العلم بالعربية خفض الاسم والخافض مضمر . وكان بعضهم يقول في ذلك : لو أن متوهّما قال : إنما المعنى : إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل يسحبون ، جاز الخفض في السلاسل على هذا المذهب ، وقال : مثله ، مما ردّ إلى المعنى ، قول الشاعر :
قَدْ سَالمَ الحَيّاتُ مِنْهُ القَدَما *** الأُفْعُوَانَ والشّجاعَ الأَرْقَما
فنصب الشّجاع والحيات قبل ذلك مرفوعة ، لأن المعنى : قد سالمت رجله الحيات وسالمتها ، فلما احتاج إلى نصب القافية ، جعل الفعل من القدم واقعا على الحيات .
والصواب من القراءة عندنا في ذلك ما عليه قراء الأمصار ، لإجماع الحجة عليه ، وهو رفع السلاسل عطفا بها على ما في قوله : فِي أعْناقِهِمْ من ذكر الأغلال .
وقوله : يُسْحَبُونَ يقول : يسحب هؤلاء الذين كذّبوا في الدنيا بالكتاب زبانيةُ العذاب يوم القيامة في الحميم ، وهو ما قد انتهى حرّه ، وبلغ غايته .
وقوله : ثُمّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ يقول : ثم في نار جهنم يحرقون ، يقول : تسجر بها جهنم : أي توقد بهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : يُسْجَرُونَ قال : يوقد بهم النار .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ثُمّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ قال : يحرقون في النار .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ثُمّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ قال : يسجرون في النار : يوقد عليهم فيها .
جملة { يُسْحَبُون في الحَمِيم } حال من ضمير { أعناقهم } أو من ضمير { يعلمون } . والسَّحْب : الجرّ ، وهو يجمع بين الإِيلام والإِهانة . والحميم : أشد الحرّ .
و ( ثُمّ ) عاطفة جملة { فِي النَّارِ يُسْجَرون } على جملة { يُسْحَبون في الحَمِيم } . وشأن ( ثمّ ) إذا عطَفَت الجمل أن تكون للتراخي الرتبي وذلك أن احتراقهم بالنار أشد في تعذيبهم من سحبهم على النار ، فهو ارتقاء في وصف التعذيب الذي أُجمل بقوله : { فَسَوفَ يَعْلَمُونَ } والسَّجْرُ بالنار حاصل عقب السحب سواء كان بتراخخٍ أم بدونه .
والسجر : ملْءُ التنور بالوقود لتقوية النار فيه ، فإسناد فعل { يسجرون } إلى ضميرهم إسناد مجازي لأن الذي يسجر هو مكانهم من جهنم ، فأريد بإسناد المسجور إليهم المبالغة في تعلق السجر بهم ، أو هو استعارة تبعية بتشبيههم بالتنور في استقرار النار بباطنهم كما قال تعالى : { يصهر به ما في بطونهم والجلود } [ الحج : 20 ] .