{ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } أي : عقوبة على جحدهم لآيات الله ، وتعديهم على رسله ، صرفوا عن التوحيد والإخلاص ، كما قال تعالى : { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ }
هذه الجملة معترضة بمنزلة التعليل لمضمون الجملة التي قبلها وهو التعجيب من انصرافهم عن عبادة ربهم خالقهم وخالق كل شيء فإن في تعليل ذلك ما يبين سبب التعجيب ، فجيء في جانب المأفوكين بالموصول لأن الصلة تومىء إلى وجه بناء الخبر وعلتِه ، أي أن استمرارهم على الجحد بآيات الله دون تأمل ولا تدبّر في معانيها ودلائلها يَطبع نفوسهم على الانصراف عن العلم بوجوب الوحدانية له تعالى . فالإِشارة بذلك إلى الإِفك المأخوذ من فعل { تؤفكون } [ غافر : 62 ] أي مثل إفككم ذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون .
فيجوز أن يكون المراد بالذين { كانوا بآياتِ الله يَجْحَدون } المخاطبين بقوله : { ذلكم الله رَبُّكُم } [ غافر : 62 ] ، ويكون الموصول وصلته إظهاراً في مقام الإِضمار ، والمعنى : كذلك تؤفكون ، أي مثلَ أَفككم تُؤفكون ، ويكون التشبيه مبالغة في أن إفكهم بلغ في كنه الأَفك النهاية بحيث لو أراد المقرِّب أن يقربه للسامعين بشبيه له لم يجد شبيهاً له أوضح منه وأجلى في ماهيته فلا يسعه إلا أن يشبهه بنفسه على الطريقة المألوفة المبينة في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] ، وبذلك تكون صلة الموصول من قوله : { الذين كانوا بئاياتت الله يجحَدُون } إيماء إلى علة إفكهم تعليلاً صريحاً .
ويجوز أن يكون المراد ب { الذين كانوا بآياتِ الله يجحَدُون } كلَّ من جحد بآيات الله من مشركي العرب ومن غيرهم من المشركين والمكذبين فيصير التعليل المومى إليه بالصلة تعليلاً تعريضياً لأنه إذا كان الأفك شأن الذين يجحدون بآيات الله كلهم فقد شمل ذلك هؤلاء بحكم المماثلة . وصيغة المضارع لاستحضار الحالة ، وذكر فعل الكون للدلالة على أن الجحد بآيات الله شأنهم وهجِّيراهم .
وهذا أصل عظيم في الأخلاق العلمية ، فإن العقول التي تتخلق بالإِنكار والمكابرة قبل التأمل في المعلومات تصرف عن انكشاف الحقائق العلمية فتختلط عليها المعلومات ولا تميّز بين الصحيح والفاسد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{كذلك يؤفك} يعني هكذا يكذب بالتوحيد.
{الذين كانوا بآيات الله} يعني آيات القرآن {يجحدون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"كَذَلِكَ يُؤفَكُ الّذِينَ كانُوا بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ" يقول: كذهابكم عنه أيها القوم، وانصرافكم عن الحقّ إلى الباطل، والرشد إلى الضلال، ذهب عنه الذين كانوا من قبلكم من الأمم بآيات الله، يعني: بحجج الله وأدلته يكذّبون فلا يؤمنون يقول: فسلكتم أنتم معشر قريش مسلكهم، وركبتم محجتهم في الضلال.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ينصرفون عن عبادته والقيام بشكره. وأصل الإفك الصرف كقوله {أجئتنا لتأفِكَنا} [الأحقاف: 22] أي لتصرفنا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ذكر أن كل من جحد بآيات الله ولم يتأملها ولم يكن فيه همة طلب الحق وخشية العاقبة: أفك كما أفكوا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم قال لنبيه: {كذلك يؤفك} أي على هذه الهيئة وبهذه الصفة صرف الله تعالى الكفار الجاحدين بآيات الله من الأمم المتقدمة على طريق الهدى.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كشف هذا السياق عن أن هذا الصرف أمر لا يقدم عليه عاقل، كان كأنه قيل هل وقع لأحد غير هؤلاء مثل هذا؟ فأجيب بقوله: {كذلك} أي مثل هذا الصرف الغريب البعيد عن مناهيج العقلاء.
{يؤفك} أي يصرف صرفا سيئاً -بناه للمفعول إشارة إلى تمام قدرته عليه بكل سبب كان؛ ولأنه المتعجب منه.
{الذين كانوا} مطبوعين على أنهم {بآيات الله} أي ذي الجلال والجمال.
{يجحدون} أي ينكرون عناداً ومكابرة، فدل هذا على أن كل من تكبر عن حق فأنكره مع علمه به؛ عوقب بمسخ القلب وعكس الفهم، فصار له الصرف عن وجوه الدلائل إلى أقفائها ديدناً؛ بحيث يموت كافراً إن لم يتداركه الله برحمة منه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا أصل عظيم في الأخلاق العلمية، فإن العقول التي تتخلق بالإِنكار والمكابرة قبل التأمل في المعلومات تصرف عن انكشاف الحقائق العلمية فتختلط عليها المعلومات ولا تميّز بين الصحيح والفاسد...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الآية الأخيرة من مجموعة الآيات التي نبحثها تأتي وكأنّها تأكيد لمواضيع الآيات السابقة، فيقول تعالى: (كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون). «يجحدون» مشتقّة من مادة «جحد» وهي في الأصل تعني إنكار الشيء الموجود في القلب والنفس؛ بمعنى أنّ الإنسان يقر في نفسه وقلبه بعقيدة أو بشيء ما، وفي نفس الوقت ينفيه ويتظاهر بعكسه، أو يعتقد بعدمه في نفسه ويثبته في لسانه. ويطلق وصف الجحود على البخلاء والذين لا يؤمّل منهم الخير ويتظاهرون بالفقر دائماً.
بعض علماء اللغة أوجز في تفسير «جحد» و «جحود» بقولهم: الجحود الإنكار مع العلم. وبناءً على ما تقدم فإن الجحود يتضمّن في داخله نوعاً من معاني العناد في مقابل الحق، و من الطبيعي أن من يتعامل مع الحقائق بهذا المنظور لا يمكن أن يستمر في طريق الحق، فما لم يكن الإنسان باحثاً عن الحقيقة وطالباً لها ومذعناً أمام منطقها فسوف لن يصل إليها مطلقاً. لذا فإنّ الوصول إلى الحق يحتاج مسبقاً إلى الاستعداد والبناء الذاتي، أيّ التقوى قبل الإيمان، وهو الذي أشار إليه تعالى في مطلع سورة البقرة: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين)...
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.