ثم بين - سبحانه - أن الملائكة معترفون اعترافا تاما بطاعتهم لله - تعالى - وبمداومتهم على عبادته وتسبيحه فقال : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ . وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون . وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون }
أى : لقد اعترف الملائكة بطاعتهم الكاملة لله - تعالى - وقالوا : وما منا أحد إلا له مقام معلوم فى عبادة الله - تعالى - وطاعته ، وإنا لنحن الصافون أنفسنا فى مواقف العبودية والطاعة لله - عز وجل - وإنا لنحن المسبحون والمنزهون له - تعالى - عن كل مالا يليق به .
وقد ذكر الإِمام ابن كثير هنا جملة من الأحاديث منها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لجلسائه : " أطَّتْ اسماء وحق لها أن تَئِط - أى سمع لها صوت شديد - ليس فيها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد " ، ثم قرأ : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون . وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون }
{ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } أي : نقف صفوفًا في الطاعة ، كما تقدم عند قوله : { وَالصَّافَّاتِ صَفًّا } . قال ابن جُرَيْج ، عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث قال : كانوا لا يصفون في الصلاة حتى نزلت : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } ، فصفوا .
وقال أبو نَضْرَة : كان عمر إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه ، ثم قال : أقيموا صفوفكم ، استووا قياما ، يريد الله بكم هدي الملائكة ، ثم يقول : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } ، تأخر يا فلان ، تقدم يا فلان ، ثم يتقدم فيكبر ، رضي الله عنه . رواه ابن أبي ، حاتم وابن جرير .
وفي صحيح مسلم عن حذيفة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فُضِّلنا على الناس بثلاث : جُعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض مسجدًا ، وتربتها طهورا " الحديث .
و { الصافون } معناه الواقفون صفوفاً ، و { المسبحون } يحتمل أن يريد به الصلاة ، يحتمل أن يريد به قول سبحان الله ، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا أقيمت الصلاة صرف وجهه إلى الناس فيقول لهم : عدلوا صفوفكم وأقيموها فإن الله تعالى إنما يريد بكم هدي الملائكة ، فإنها تقول { وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون } ، ثم يرى تقويم الصفوف ، وعند ذلك ينصرف ويكبر ، قال الزهراوي : قيل إن المسلمين إنما اصطفوا منذ نزلت هذه الآية ، ولا يصطف أحد من أهل الملل غير المسلمين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
صفوف الملائكة في السماوات في الصلاة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل ملائكته:"وَإنّا لَنَحْنُ الصّافّونَ" لله لعبادته "وَإنّا لَنَحْنُ المُسَبّحُونَ "له، يعني بذلك المصلون له... حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا الجريري، عن أبي نضرة، قال: كان عمر إذا أُقيمت الصلاة أقبل على الناس بوجهه، فقال: يا أيها الناس استَوُوا، إن الله إنما يريد بكم هَدْيّ الملائكة وَإنّا لَنَحْنُ الصّافّونَ وَإنّا لَنَحْنُ المُسَبّحُونَ اسْتَوُوا، تقدّم أنت يا فلان، تأخر أنت أي هذا، فإذا استَوُوا تقدّم فكبر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَنَحْنُ الصافون} نصف أقدامنا في الصلاة، أو أجنحتنا في الهواء. منتظرين ما نؤمر.
اعلم أن قوله: {وإنا لنحن الصافون} يفيد الحصر ومعناه أنهم هم الصافون في مواقف العبودية لا غيرهم.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قال الكلبي: صفوفهم كصفوف أهل الدنيا في الأرض، وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في المسجد فقال: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها) فقلنا يا رسول الله كيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال؟ (يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف)...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما سلب عن الكل كل شيء من القدرة إلا ما وهبهم، وكان الكفار يدعون أنهم يعبدون الله تعالى وينزهونه وأن الإشراك لا يقدح في ذلك، بين أن المخلصين خصوا دونهم بمواقف الصفاء، ومقامات الصدق والوفاء، لأن طاعتهم أبطلها إشراكهم، فقال مؤكداً ومخصصاً: {وإنا} أي يا معشر المخلصين {لنحن} أي دونكم.
{الصافون} أي أنفسنا في الصلاة والجهاد وأجنحتنا في الهواء فيما أرسلنا به وغير ذلك لاجتماع قلوبنا على الطاعة...
فكيف نكون بنات الله؟ وكيف نُعبَد من دون الله ونحن مُسخَّرون لعبادته سبحانه ونحن جنود مصفوفون في انتظار أوامره تعالى {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ} أي: نقف صفوفاً منتظمة، والصف دليل الانتظام وعنوان الالتزام والانضباط؛ لذلك ورد في الحديث:"إن الله لا ينظر إلى الصَّفِّ الأعوج" لماذا؟ لأنكم بين يدي الله سبحانه فأروا الله منكم ما يدل على المساواة والالتزام والترابط.
وفي الحرب كذلك: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4]..
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} قيل: إنه من كلام جبريل أو هو وأعوانه من ملائكة الوحي على نحو الجملة الاعتراضية على ما يعطيه السياق نظير قوله تعالى في سورة مريم: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلِكَ} [مريم: 64].
والآيات الثلاث مسوقة لرد قولهم بألوهية الملائكة بإيراد نفس اعترافهم بما ينتفي به قول الكفار، وهم لا ينفون العبودية عن الملائكة، بل يرون أنهم مربوبون لله سبحانه أرباب وآلهة لمن دونهم يستقلون بالتصرف في ما فوض إليهم من أمر العالم من غير أن يرتبط شيء من هذا التدبير إلى الله سبحانه، وهذا هو الذي ينفيه الملائكة عن أنفسهم، لا كونهم أسباباً متوسطةً بينه تعالى وبين خلقه، كما قال تعالى {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ* لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26 -27].
وخلاصة الفكرة التي تثيرها الآيات، أن الملائكة يؤكدون بأن لكل واحد منهم دوراً معيناً، ومقاماً معلوماً في ما يفوضه الله إليهم من مهمّاتِ في حركة الكون، وأنهم الذين يقفون أمام الله صفّاً في انتظار أوامره الكونية، وأنهم الذين يرفعون التسبيح إلى مقام قدسه، في عبادتهم الخالصة التي ينزهون فيها الله عن كل ما لا يليق به.