ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ببشارة المؤمنين بنصره ، وبتسلية النبى صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه ، فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا . . . } .
المراد بكلمتنا فى قوله : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا . . } ما وعد الله - تعالى - به رسله وعباده الصالحين من جعل العاقبة الطيبة لهم .
ومن الآيات التى ودرت فى هذا المعنى قوله - تعالى - : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } وقوله - سبحانه - { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } أى : والله لقد سبق وعدنا لعبادنا المرسلين بالنصر والفوز { إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون } على أعدائهم { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } لمن عاداهم وناوأهم .
وهذا الوعد بالنصر لا يتعارض مع هزيمتهم فى بعض المواطن - كيوم أحد مثلا - لأن هذه الهزيمة إنما هى لون من الابتلاء الذى اقتضته حكمة الله - تعالى - ليتميز قوى الإِيمان من ضعيفه ، أما النصر فى النهاية فهو للمؤمنين وهذا ما حكاه لنا التاريخ الصحيح ، فقد تم فتح مكة ، ودخل الناس فى دين الله أفواجا ، بعد أن جاهد النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهزموا الكافرين ، ولم يفارق الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الدنيا إلا بعد أن صارت كلمة الله هى العليا ، وكلمة الذين كفروا هى السفلى .
وبمناسبة التهديد يقرر وعد الله لرسله بالنصر والغلبة :
( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين . إنهم لهم المنصورون . وإن جندنا لهم الغالبون ) . .
والوعد واقع وكلمة الله قائمة . ولقد استقرت جذور العقيدة في الأرض ؛ وقام بناء الإيمان ، على الرغم من جميع العوائق ، وعلى الرغم من تكذيب المكذبين ، وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمتبعين . ولقد ذهبت عقائد المشركين والكفار . وذهبت سطوتهم ودولتهم ؛ وبقيت العقائد التي جاء بها الرسل . تسيطر على قلوب الناس وعقولهم ، وتكيف تصوراتهم وأفهامهم . وما تزال على الرغم من كل شيء هي أظهر وأبقى ما يسيطر على البشر في أنحاء الأرض . وكل المحاولات التي بذلت لمحو العقائد الإلهية التي جاء بها الرسل ، وتغليب أية فكرة أو فلسفة أخرى قد باءت بالفشل . باءت بالفشل حتى في الأرض التي نبعث منها . وحقت كلمة الله لعباده المرسلين . إنهم لهم المنصورون وإن جنده لهم الغالبون .
هذه بصفة عامة . وهي ظاهرة ملحوظة . في جميع بقاع الأرض . في جميع العصور .
وهي كذلك متحققة في كل دعوة لله . يخلص فيها الجند ، ويتجرد لها الدعاة . إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق ، وقامت في طريقها العراقيل . ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار ، وقوى الدعاية والافتراء ، وقوى الحرب والمقاومة ، وإن هي إلا معارك تختلف نتائجها . ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله . والذي لا يخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه . الوعد بالنصر والغلبة والتمكين .
هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية . سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها المنتظمة ؛ وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان ؛ وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء . . ولكنها مرهونة بتقدير الله ، يحققها حين يشاء . ولقد تبطىء آثارها الظاهرة بالقياس إلى أعمار البشر المحدودة . ولكنها لا تخلف أبداً ولا تتخلف وقد تتحقق في صورة لا يدركها البشر لأنهم يطلبون المألوف من صور النصر والغلبة ، ولا يدركون تحقق السنة في صورة جديدة إلا بعد حين !
ولقد يريد البشر صورة معينة من صور النصر والغلبة لجند الله وأتباع رسله . ويريد الله صورة أخرى أكمل وأبقى . فيكون ما يريده الله . ولو تكلف الجند من المشقة وطول الأمد أكثر مما كانوا ينتظرون . . ولقد أراد المسلمون قبيل غزوة بدر أن تكون لهم عير قريش وأراد الله أن تفوتهم القافلة الرابحة الهينة ؛ وأن يقابلوا النفير وأن يقاتلوا الطائفة ذات الشوكة . وكان ما أراده الله هو الخير لهم وللإسلام . وكان هو النصر الذي أراده الله لرسوله وجنده ودعوته على مدى الأيام .
ولقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك ، وتدور عليهم الدائرة ، ويقسو عليهم الابتلاء ؛ لأن الله يعدهم للنصر في معركة أكبر . ولأن الله يهيىء الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ ثماره في مجال أوسع ، وفي خط أطول ، وفي أثر أدوم .
لقد سبقت كلمة الله ، ومضت إرادته بوعده ، وثبتت سنته لا تتخلف ولا تحيد :
( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ) .
يقول تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } أي : تقدم في الكتاب الأول أن العاقبة للرسل وأتباعهم في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ } [ غافر : 51 ] ؛ ولهذا قال : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } .
ثم أنس تعالى نبيه وأولياءه بأن القضاء قد سبق ، والكلمة قد حقت في الأزل بأن رسل الله تعالى إلى أرضه هم { المنصورون } على من ناوأهم المظفرون بإرادتهم المستوجبون الفلاح في الدارين ، وقرأ الضحاك «كلماتنا » بألف على الجمع ، وجند الله هم الغزاة لتكون كلمات الله هي العليا ، وقال علي بن أبي طالب : جند الله في السماء الملائكة ، وفي الأرض الغزاة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد سبقت كلمتنا} بالنصر، {لعبادنا المرسلين}: يعني الأنبياء عليهم السلام، يعني بالكلمة قوله عز وجل: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} [المجادلة:21]، فهذه الكلمة التي سبقت للمرسلين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعبادِنا المُرْسَلِينَ إنّهُمْ لَهُمُ المَنْصُورُونَ": يقول تعالى ذكره: ولقد سبق منا القول لرسلنا إنهم لهم المنصورون: أي مضى بهذا منا القضاء والحكم في أمّ الكتاب، وهو أنهم لهم النّصرة والغَلبة بالحجج.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اختلف فيه: قال بعضهم: إن الرسل عليهم السلام كانوا منصورين، لم يقتل رسول قط، فإنما قُتل الأنبياء ورسل المرسلين الذين يبلّغون رسالة الرسل إلى قومهم، ويخبرون عنهم، فأما الرسل أنفسهم فهم لم يقتلوا ولا قُتل أحد منهم، عصمهم الله تعالى عن الناس، وعما هَمّوا بهم.
وقال بعضهم: {إنهم لهم المنصورون} لما نصر العاقبة لهم، إذ لم يكن رسول إلا وقد كانت العاقبة له، وإن غُلب في الابتداء.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أقسم الله تعالى؛ لأن هذه اللام لام القسم بأنه: (سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين) الذين بعثهم الله إلى خلقه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إنما سماها كلمة وهي كلمات عدّة، لأنها لما انتظمت في معنى واحد كانت في حكم مفردة، وقرىء: «كلماتنا» والمراد الموعد بعلوهم على عدوهم في مقام الحجاج وملاحم القتال في الدنيا، وعلوهم عليهم في الآخرة، كما قال: {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة} [البقرة: 212]...
اعلم أنه تعالى لما هدد الكفار بقول تعالى: {فسوف يعلمون} أي عاقبة كفرهم أردفه بما يقوي قلب الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون} فبين أن وعده بنصرته قد تقدم، وأيضا أن الخير مقضى بالذات والشر مقضى بالعرض، وما بالذات أقوى مما بالعرض.
أما النصرة والغلبة فقد تكون بقوة الحجة، وقد تكون بالدولة والاستيلاء، وقد تكون بالدوام والثبات؛ فالمؤمن وإن صار مغلوبا في بعض الأوقات بسبب ضعف أحوال الدنيا فهو الغالب، ولا يلزم على هذه الآية أن يقال: فقد قتل بعض الأنبياء وقد هزم كثير من المؤمنين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولقد سبقت} أي في الأزل {كلمتنا} أي على ما لنا من العظمة {لعبادنا} أي الذين أخلصوا لنا العبادة في كل حركة وسكون {المرسلين} الذين زدناهم على شرف الإخلاص في العبودية شرف الرسالة...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
استئنافٌ مقَّررٌ للوعيدِ وتصديرُه بالقسمِ لغايةِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمونِه أي وبالله لقد سبقَ وعدُنا لهم بالنُّصرةِ والغَلَبةِ...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
الأولى تفسير هذه الكلمة بما هو مذكور هنا؛ فإنه قال: {إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} فهذه هي الكلمة المذكورة سابقاً، وهذا تفسير لها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بمناسبة التهديد يقرر وعد الله لرسله بالنصر والغلبة:... والوعد واقع وكلمة الله قائمة. ولقد استقرت جذور العقيدة في الأرض؛ وقام بناء الإيمان، على الرغم من جميع العوائق، وعلى الرغم من تكذيب المكذبين، وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمتبعين. ولقد ذهبت عقائد المشركين والكفار، وذهبت سطوتهم ودولتهم، وبقيت العقائد التي جاء بها الرسل، تسيطر على قلوب الناس وعقولهم، وتكيف تصوراتهم وأفهامهم، وما تزال على الرغم من كل شيء هي أظهر وأبقى ما يسيطر على البشر في أنحاء الأرض.
وكل المحاولات التي بذلت لمحو العقائد الإلهية التي جاء بها الرسل، وتغليب أية فكرة أو فلسفة أخرى قد باءت بالفشل، باءت بالفشل حتى في الأرض التي نبعت منها، وحقت كلمة الله لعباده المرسلين. إنهم لهم المنصورون وإن جنده لهم الغالبون.
هذه بصفة عامة وهي ظاهرة ملحوظة في جميع بقاع الأرض في جميع العصور، وهي كذلك متحققة في كل دعوة لله يخلص فيها الجند، ويتجرد لها الدعاة؛ إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق، وقامت في طريقها العراقيل، ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار، وقوى الدعاية والافتراء، وقوى الحرب والمقاومة.
وإن هي إلا معارك تختلف نتائجها، ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله، والذي لا يخلف، ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه: الوعد بالنصر والغلبة والتمكين، هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية،سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها المنتظمة، ولكنها مرهونة بتقدير الله، يحققها حين يشاء. ولقد تبطىء آثارها الظاهرة بالقياس إلى أعمار البشر المحدودة. ولكنها لا تخلف أبداً ولا تتخلف وقد تتحقق في صورة لا يدركها البشر لأنهم يطلبون المألوف من صور النصر والغلبة، ولا يدركون تحقق السنة في صورة جديدة إلا بعد حين!. ولقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك، وتدور عليهم الدائرة، ويقسو عليهم الابتلاء؛ لأن الله يعدهم للنصر في معركة أكبر. ولأن الله يهيىء الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ ثماره في مجال أوسع، وفي خط أطول، وفي أثر أدوم. لقد سبقت كلمة الله، ومضت إرادته بوعده، وثبتت سنته لا تتخلف ولا تحيد...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على ما تضمنه قوله: {فكَفرُوا به} وبيان لبعض الوعيد الذي في قوله: {فسوف يعلمون} بمنزلة بدل البعض من الكل ولكنه غلب عليه جانب التسلية فعطف بالواو عطف القصة على القصة...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
يظهر من السياق أن الحكمة المقصودة من الإتيان بقصة يونس كخاتمة لقصص الأنبياء والرسل، منذ عهد نوح عليه السلام، في هذه السورة المكية، هي ضرب المثل لخاتم الأنبياء والمرسلين، بمن سبقه من "أولي العزم "الأولين، وتحذيره من التهاون في أداء الرسالة الملقاة على عاتقه، إذ لا يعفيه منها شيء، ولا يبرر التخلي عنها أي أذى يلحقه من قبل المشركين، مهما كان أذاهم بالغا، بل تجب عليه المثابرة ويلزمه الصبر، إلى أن يتحقق النصر، {وما النصر إلا من عند الله} كما تتضمن هذه القصة تنبيها صريحا للرسول عليه السلام، حتى لا يسلك مسلك أخيه يونس، عندما فارق قومه مغاضبا لهم، ساخطا عليهم، فاضطرته الأقدار للعودة إليهم من جديد، إذ لابد له من تحقيق مراد الله، وتبليغ رسالته، ولو كره المشركون. وبهذا التوجيه يظهر مغزى ما جاء بعد ذلك في هذا الربع نفسه من الآيات البينات، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى تثبيتا لرسوله على الحق، والدعوة إليه دون انقطاع ولا فتور: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (171) إنهم لهم المنصورون (172) وإن جندنا لهم الغالبون (173)}، ومادام الحق سبحانه وتعالى قد وعد رسله بنصره، وعلى رأسهم خاتم الرسل والأنبياء، ووعد جنده بالغلبة، فلا مناص من المثابرة والمصابرة، {وتول عنهم حتى حين}، {فاصبر إن وعد الله حق} {لا يخلف الله وعده}.
معنى {سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا} يعني: قلناها قبل الكون كله، وهذه الكلمة لها مترادفات: سبقتْ كلمتنا ووقعتْ وحقَّتْ، سبقتْ أي: لتحديدها قبل الحدوث، ووقعتْ ساعة الحدوث، وحقَّت أي: هي حَقٌّ أنْ أقضي بقدرتي، وحَقٌّ أنْ تقع على مَنْ أريد. إذن: فهي مَعَانٍ ملتقية معاً ومتكاملة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وكلمات (عبادنا) و (جندنا) التي وردت في آيات بحثنا، وغيرها من العبارات والكلمات المشابهة في هذا المجال في القرآن الكريم كعبارة (حزب الله) و (الذين جاهدوا فينا) و (لينصرنّ الله من ينصره) وأمثالها، توضّح بسهولة شروط النصر.