{ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ } أي : قطع عذاب تستأصلنا . { إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } كقول إخوانهم { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أو أنهم طلبوا بعض آيات الاقتراح ، التي لا يلزم تتميم مطلوب من سألها .
واستمع قوم شعيب إلى تلك النصائح الحكيمة . ولكن لم يتأثروا بها ، بل اتهموا نبيهم فى عقله وفى صدقه ، وتحدوه فى رسالته فقالوا - كما حكى القرآن عنهم - : { إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } .
قالوا له بسفاهة وغرور : إنما أنت يا شعيب من الذين أصيبوا بسحر عظيم جعلهم لا يعقلون ما يقولون ، أو إنما أنت من الناس الذين يأكلون الطعام ، ويشربون الشراب ، ولا مزية لك برسالة أو بنبوة علينا ، فأنت بشر مثلنا ، وما نظنك إلا من الكاذبين فيما تدعيه ، فإن كنت صادقا فى دعوى الرسالة فأسقط علينا { كِسَفاً مِّنَ السمآء } أى : قطعا من العذاب الكائن من جهة السماء .
وجاء التعبير بالواو هنا فى قوله { وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } للإشارة إلى أنه جمع بين أمرين منافيين لدعواه الرسالة ، وهما : كونه من المسحرين وكونه بشرا وقصدوا بذلك المبالغة فى تكذيبه ، فكأنهم يقولون له : إن وصفا واحدا كاف فى تجريدك من نبوتك فكيف إذا اجتمع فيك الوصفان ، ولم يكتفوا بهذا بل أكدوا عدم تصديقهم له فقالوا : وما نظنك إلا من الكاذبين .
ثم أضافوا إلى كل تلك السفاهات . الغرور والتحدى حيث تعجلوا العذاب .
{ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ } : قال الضحاك : جانبا من السماء . وقال قتادة : قطعا من السماء . وقال السدي : عذابًا من السماء . وهذا شبيه بما قالت قريش فيما أخبر الله عنهم في قوله تعالى : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا } ، إلى أن قالوا : { أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا } [ الإسراء : 90 - 92 ] . وقوله : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ، وهكذا قال هؤلاء الكفرة الجهلة : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } .
وقوله : قالُوا إنّمَا أنْتَ مِنَ المُسَحّرِينَ يقول : قالوا : إنما أنت يا شعيب معلّلٌ تعلّلُ بالطعام والشراب ، كما نعلّل بهما ، ولست مَلَكا وَما أنْتَ إلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا تأكل وتشرب وَإنْ نَظُنّكَ لَمِنَ الكاذِبِينَ . يقول : وما نحسبك فيما تخبرنا وتدعونا إليه ، إلا ممن يكذِب فيما يقول ،
فإن كنت صادقا فيما تقول بأنك رسول الله كما تزعم فَأسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفا مِنَ السّماءِ يعني قِطعا من السماء ، وهي جمع كِسْفة ، جُمع كذلك كما تجمع تمرة : تمرا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : كِسَفا يقول : قِطعا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله كِسَفا مِنَ السّماءِ : جانبا من السماء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله فَأسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفا مِنَ السّماءِ قال : ناحية من السماء ، عذاب ذلك الكسف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فأسقط علينا كسفا} يعني: جانبا {من السماء إن كنت من الصادقين} بأن العذاب نازل بنا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فإن كنت صادقا فيما تقول بأنك رسول الله كما تزعم "فَأسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفا مِنَ السّماءِ "يعني: قِطعا من السماء، وهي جمع كِسْفة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: إن كنت صادقاً أنك نبيّ، فادع الله أن يسقط علينا كسفا من السماء.
ثم إن شعيبا عليه السلام كان يتوعدهم بالعذاب إن استمروا على التكذيب فقالوا: {فأسقط علينا كسفا من السماء}..وهم إنما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه فظنوا أنه إذا لم يقع ظهر كذبه.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" فأسقط علينا كِسْفا من السماء "أي جانبا من السماء وقطعة منه، فننظر إليه، كما قال:"وإن يروا كِسْفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم "[الطور: 44]. وقيل: أرادوا أنزل علينا العذاب. وهو مبالغة في التكذيب.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين).. وهو تحدي المستهتر الهازئ المستهين! وهو شبيه بتحدي المشركين للرسول الكريم..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ثم أرادوا أن يتحدوه بطلب ما لا طوق له به، حتى إذا ما عجز عن تلبية طلبهم سجلوا عليه تهمة الكذب والادعاء، واعتبروا رسالته عبارة عن هذيان وهراء، ولذلك تحدوا شعيبا قائلين: {فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين} أي أسقط علينا جانبا من السماء على اعتبار أن السماء بمنزلة السقف للأرض.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ} أي قطعاً من السماء المتناثرة لتكسر رؤوسنا، وتحرق أجسادنا، {إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في ما تدعيه من علاقتك المميزة بالله التي تتيح لك أن تملك السيطرة على الكون، في ما تريد، وما لا تريد.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وبعد إلقاء هذا الكلام المتناقض، إذ تارةً يدعونه (من الكاذبين) ورجلا انتهازياً، وتارةً يدعونه مجنوناً أو من المسحّرين، وكان كلامهم الأخير هو: إن كنت نبيّاً (فاسقط علينا كسفاً من السماء إن كنت من الصادقين) حيث كنت تهددنا دائماً بهذا اللون من العذاب. و «كِسَف» على وزن (فِرَق) جمع (كِسْفَة) على وزن (قطعة) ومعناها قطعة أيضاً والمراد من هذه «القطع من السماء» هي قطع الأحجار التي تهوي من السماء... وهكذا يبلغ بهم صلفهم ووقاحتهم وعدم حيائهم إلى هذه الدرجة، وأظهروا كفرهم وتكذيبهم في أسوأ الصور.