ولكن تكذيبهم له من غير شبهة ، إن هو إلا محض الكفر والعناد ، وأمر قد توارثته الأمم المكذبة ، فلهذا قال : { كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ } أي : أدخلنا التكذيب ، وأنظمناه في قلوب أهل الإجرام ، كما يدخل السلك في الإبرة ، فتشربته ، وصار وصفا لها ، وذلك بسبب ظلمهم وجرمهم ، فلذلك : { لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الألِيمَ } على تكذيبهم .
قوله - تعالى - : { سَلَكْنَاهُ } من السَّلك بمعنى إدخال الشىء فى الشىء تقول : سلكت الطريق إذا دخلت فيه . والضمير يعود إلى القرآن الكريم وقوله : { كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ } نعت لمصدر محذوف .
أى : مثل ذلك الإدخال العجيب ، أدخلنا القرآن فى قلوب المجرمين ، حيث جعلناهم - بسبب جحودهم وعنادهم - مع تأثرهم به واعترافهم بفصاحته ، لا يؤمنون به ، حتى يروا بأعينهم العذاب الأليم .
ومنهم من يرى أن الضمير فى { سَلَكْنَاهُ } يعود إلى كفر الكافرين وتكذيبهم . والمعنى - كما يقول ابن كثير - : كذلك سلكنا التكذيب والكفر والجحود والعناد . أى : أدخلناه فى قلوب المجرمين ، لا يؤمنون به . أى : بالحق { حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } حيث لا ينفع الظالمين معذرتهم ، ولهم اللعنة ولهم سوء الدار .
والرأيان متقاربان فى المعنى ، لأن المراد بالتكذيب على الرأى الثانى تكذيبهم بالقرآن ، إلا أن الرأى الأول أنسب بسياق الآيات ، وبانتظام الضمائر . . .
( كذلك سلكناه في قلوب المجرمين . لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ، فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون ) . .
والتعبير يرسم صورة حسية لملازمة التكذيب لهم . فيقول : إنه على هذه الهيئة . هيئة عدم الإيمان والتكذيب بالقرآن . على هذه الهيئة نظمناه في قلوبهم وأجريناه . فهو لا يجري فيها إلا مكذبا به . ويظل على هيئته هذه في قلوبهم ( حتى يروا العذاب الأليم ) . . ( فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون ) . . وقد بقي بعضهم فعلا على هذا الوضع حتى فارق هذه الأرض بالقتل أو الموت ، ومن ثم إلى العذاب الأليم . .
وقوله : لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حتى يَرَوا العَذَابَ الأَلِيمَ يقول : فعلنا ذلك بهم لئلا يصدّقوا بهذا القرآن ، حتى يروا العذاب الأليم في عاجل الدنيا ، كما رأت ذلك الأمم الذين قصّ الله قصصهم في هذه السورة . ورفع قوله لا يُؤْمِنُونَ لأن العرب من شأنها إذا وضعت في موضع مثل هذا الموضع «لا » ربما جزمت ما بعدها ، وربما رفعت فتقول : ربطت الفرس لا تنفلتْ ، وأحكمت العقد لا ينحلّ ، جزما ورفعا . وإنما تفعل ذلك لأن تأويل ذلك : إن لم أحكم العقد انحلّ ، فجزمه على التأويل ، ورفعه بأن الجازم غير ظاهر . ومن الشاهد على الجزم في ذلك قول الشاعر :
لَوْ كُنْتَ إذْ جِئْتَنا حاوَلْتَ رُؤْيَتَنا *** أوْ جِئْتَنا ماشِيا لا يَعْرِفِ الفَرَس
لَطالَمَا حّلأْتمَاها لا تَرِدْ *** فَخَلّياها وَالسّجالَ تَبْبَترِدْ
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لا يؤمنون به} يعني: بالقرآن {حتى يروا العذاب الأليم} يعني: الوجيع.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حتى يَرَوا العَذَابَ الأَلِيمَ" يقول: فعلنا ذلك بهم لئلا يصدّقوا بهذا القرآن، حتى يروا العذاب الأليم في عاجل الدنيا، كما رأت ذلك الأمم الذين قصّ الله قصصهم في هذه السورة.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
إخبار منه تعالى عن قوم من الكفار أنهم يموتون على كفرهم بأنهم لا يؤمنون حتى يشاهدوا العذاب المؤلم، فيصيرون عند ذلك ملجئين إلى الإيمان، ومعنى "حتى يروا العذاب "أي حتى يشاهدوا أسبابه من نيران مؤججة لهم يساقون إليها، لا يردهم عنها شيء. ويحتمل حتى يعلموه في حال حلوله بهم علم ملابسته لهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... فإن قلت: ما موقع {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} من قوله: {سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ المجرمين}؟ قلت: موقعه منه موقع الموضح والملخص؛ لأنه مسوق لثباته مكذباً مجحوداً في قلوبهم، فأتبع ما يقرّر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد. ويجوز أن يكون حالاً، أي: سلكناه فيها غير مؤمن به.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: بالحق {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} أي: حيث لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان هذا المعنى خفياً، بينه بقوله: {لا يؤمنون به} أي من أجل ما جبلوا عليه من الإجرام، وجعل على قلوبهم من الطبع والختام {حتى يروا العذاب الأليم} فحينئذ يؤمنون حيث لا ينفعهم الإيمان ويطلبون الأمان حيث لا أمان.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وإجمال ما تقدم: هكذا مكنا التكذيب وقررناه في قلوبهم، فكيفما فعل بهم، وعلى أي وجه دبر أمرهم، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من جحوده وإنكاره كما قال: {ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين} (الأنعام: 7).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة: {لا يؤمنون به} في موضع الحال من {المجرمين}. والغاية في {حتى يروا العذاب} تهديد بعذاب سيحلّ بهم، وحث على المبادرة بالإيمان قبل أن يحل بهم العذاب. والعذاب صادق بعذاب الآخرة لمن هلكوا قبل حلول عذاب الدنيا، وصادق بعذاب السيف يومَ بدر، ومعلوم أنه {لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل} [الأنعام: 158].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أي إن ذلك شأنهم، ولذلك كان النفي داخلا على المضارع، لأن فيه تصويرا لعدم إيمانهم، إذ هم ماديون حسيون لا يؤمنون إلا بالحس، وما يشبهه، هذا معنى قوله: {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} المؤلم الشديد في إيلامه، أي لا يؤمنون إلا بما يحسون، وكذلك شأن الكافرين لا يؤمنون بالغيب، بل يؤمنون بما يرون ويحسون فقط، والفرق بين الإيمان والكفر هو الإيمان بالغيب، فالكافر لا يؤمن إلا بالحس والتجربة المحسة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أي إن هؤلاء المجرمين المعاندين، يظلون على حالهم حتى نزول العذاب... واحتمل بعض المفسّرين في تفسير الآية أن المراد من (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين) هو أننا أدخلنا العناد واللجاجة والعصبية وعدم التأثير في قلوب المجرمين، بسبب ذنوبهم وجرمهم. وطبقاً لهذا المعنى فالآية محل البحث تشبه الآية (ختم الله على قلوبهم). إلاّ أن التّفسير الأوّل أكثر انسجاماً مع الآيات السابقة واللاحقة، لذلك فقد اختاره أغلب المفسّرين. أجل، إنّهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب (فيأتيهم بغتةً وهم لا يشعرون).