{ وَنَحْنُ } فى هذه الحالة وغيرها ، { أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } أى : ونحن أقرب إليه منكم بعلمنا وبقدرتنا ، حيث إنكم لا تعرفون حقيقة ما هو فيه من أهوال ولا تدركون عظيم ما فيه من كرب ، ولا تقدرون على رفع شىء من قضائنا فيه وفى غيره .
وقوله : { ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ } استدراك للكلام السابق . أى : ونحن أقرب إلى هذا المحتضر منكم ، ولكنكم لا تدركون ذلك لجهلكم بقدرتنا النافذة ، وحكمتنا البالغة .
هنا تتفرد القدرة الإلهية ، والعلم الإلهي . ويخلص الأمر كله لله بلا شائبة ولا شبهة ولا جدال ولا محال :
( ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ) !
وهنا يجلل الموقف جلال الله ، ورهبة حضوره - سبحانه وتعالى - وهو حاضر في كل وقت . ولكن التعبير يوقظ الشعور بهذه الحقيقة التي يغفل عنها البشر . فإذا مجلس الموت تجلله رهبة الحضور وجلاله . فوق ما فيه من عجز ورهبة وانقطاع ووداع .
يقول : وَنَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ يقول : ورسلنا الذين يقبضون روحه أقرب إليه منكم ، وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ .
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : قيل فَلَوْلا إذَا بَلَغَتِ الْحُلْقومَ وأنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ كأنه قد سمع منهم ، والله أعلم : إنا نقدر على أن لا نموت ، فقال : فَلَوْلا إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ ، ثم قال فَلَوْلا إنْ كُنْتُمْ غَيرَ مَدِينِينَ أي غير مجزيين ترجعون تلك النفوس وأنتم ترون كيف تخرج عند ذلك إن كنتم صادقين بأنكم تمتنعون من الموت .
وجملة { ونحن أقرب إليه منكم } في موضع الحال من مفعول { تنظرون } المحذوف ، أو معترضة والواو اعتراضية .
وأيَّاً ما كانت فهي احتراس لبيان أن ثمة حضوراً أقرب من حضورهم عند المحتضر وهو حضور التصريف لأحواله الباطنة .
وقربُ الله : قربُ علممٍ وقدرة على حد قوله : { وجاء ربك } [ الفجر : 22 ] أو قرب ملائكته المرسلين لتنفيذ أمره في الحياة والموت على حد قوله : { ولقد جئناهم بكتاب } [ الأعراف : 52 ] ، أي جاءهم جبريل بكتاب ، قال تعالى : { حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم } [ الأعراف : 37 ] .
وجملة { ولكن لا تبصرون } معترضة بين جملة { ونحن أقرب إليه منكم } وجملة { فلولا إن كنتم غير مدينين } وكلمة { فلولا } الثانية تأكيد لفظي لنظيرها السابق أعيد لتُبنى عليه جملة { ترجعونها } لطول الفصل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ونحن أقرب إليه منكم} يعني ملك الموت وحده إذ أتاه ليقبض روحه {ولكن لا تبصرون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَنَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ" يقول: ورسلنا الذين يقبضون روحه أقرب إليه منكم، "وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ" وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: قيل "فَلَوْلا إذَا بَلَغَتِ الْحُلْقومَ وأنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ" كأنه قد سمع منهم، والله أعلم، إنا نقدر على أن لا نموت، فقال: "فَلَوْلا إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ"، ثم قال "فَلَوْلا إنْ كُنْتُمْ غَيرَ مَدِينِينَ" أي غير مجزيين ترجعون تلك النفوس وأنتم ترون كيف تخرج عند ذلك إن كنتم صادقين بأنكم تمتنعون من الموت...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ونحن اقرب إليه منكم} أي ملائكتي ورسلي في ذلك الوقت أقرب إليه منكم، ولكن لا تبصرون الملائكة لكن أضاف إلى نفسه لما أن الملآئكة بأمره وتسليطه يعملون. وقيل: {ونحن أقرب إليه منكم} أي أولى به في ذلك الوقت لما يعلم هو خطأه، ويتبين له الحق في ذلك الوقت من الباطل {ولكن لا تبصرون} أنتم، أي لا تعلمون ذلك، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"ولكن لا تبصرون" معناه ولكن لا تعلمون ذلك لجهلكم بالله وبما يجوز عليه وما لا يجوز. ويحتمل أن يكون المراد ولكن لا تبصرون الله، لأن الرؤية مستحيلة عليه. وقيل معناه: ولكن لا تبصرون الملائكة التي تتولى قبض روحه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ونحن أقرب إليه منكم} يحتمل أن يريد ملائكته ورسله، ويحتمل أن يريد بقدرتنا وغلبتنا، فعلى الاحتمال الأول يجيئ قوله: {ولكن لا تبصرون} من البصر بالعين، وعلى التأويل الثاني يجيئ من البصر بالقلب...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
{ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ} أي لا تدركون ذلك، لجهلكم بأن الله أقرب إلى عبده من حبل الوريد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون)! وهنا يجلل الموقف جلال الله، ورهبة حضوره -سبحانه وتعالى- وهو حاضر في كل وقت. ولكن التعبير يوقظ الشعور بهذه الحقيقة التي يغفل عنها البشر. فإذا مجلس الموت تجلله رهبة الحضور وجلاله. فوق ما فيه من عجز ورهبة وانقطاع ووداع...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
نعم، نحن الذين نعلم بصورة جيّدة ما الذي يجول في خواطر المحتضر؟ وما هي الإزعاجات التي تعتريه؟ نحن الذين أصدرنا أمرنا بقبض روحه في وقت معيّن، إنّكم تلاحظون ظاهر حاله فقط، ولا تعلمون كيفية انتقال روحه من هذه الدار إلى الدار الآخرة، وطبيعة المخاضات الصعبة التي يعيشها في هذه اللحظة.
وبناءً على هذا فالمقصود من الآية هو: قرب الله عز وجل من الشخص المحتضر، بالرغم من أنّ البعض احتمل المقصود بالقرب (ملائكة قبض الروح) إلاّ أنّ التّفسير الأوّل منسجم مع ظاهر الآية أكثر.
وعلى كلّ حال فإنّ الله سبحانه ليس في هذه اللحظات أقرب إلينا من كلّ أحد، بل هو في كلّ وقت كذلك، بل هو أقرب إلينا حتّى من أنفسنا، بالرغم من أنّنا بعيدون عنه نتيجة غفلتنا وعدم وعينا، ولكن هذا المعنى في لحظة الاحتضار يتجلّى أكثر من أي وقت آخر.