قوله عز وجل : { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم } ذكرنا عددهم في سورة هود ، { المكرمين } قيل : سماهم مكرمين لأنهم كانوا ملائكة كراماً عند الله ، وقد قال الله تعالى في وصفهم : { بل عباد مكرمون }( الأنبياء-26 ) ، وقيل : لأنهم كانوا ضيف إبراهيم : وكان إبراهيم أكرم الخليقة ، وضيف الكرام مكرمون . وقيل : لأن إبراهيم عليه السلام أكرمهم بتعجيل قراهم ، والقيام بنفسه عليهم بطلاقة الوجه . وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : خدمته بنفسه إياهم ، وروي عن ابن عباس : سماهم مكرمين لأنهم جاؤوا غير مدعوين . وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " .
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن قصص بعض الأنبياء السابقين فبدأت بجانب من قصة إبراهيم - عليه السلام - مع الملائكة الذين جاءوا لبشارته بابنه إسحاق ، فقال - تعالى - : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ . . . } .
هذه القصة التى تحكى لنا هنا ما دار بين إبراهيم - عليه السلام - وبين الملائكة الذين جاءوا لبشارته بابنه إسحاق ، ولإخباره بإهلاك قوم لوط ، قد وردت قبل ذلك فى سورتى هود والحجر .
وقد افتتحت هنا بأسلوب الاستفهام { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين } للإشعار بأهمية هذه القصة ، وتفخيم شأنها ، وبأنها لا علم بها إلا عن طريق الوحى . . . وقيل إن هل هنا بمعنى قد .
والمعنى : هل أتاك - أيها الرسول الكريم - حديث ضيف إبراهيم المكرمين ؟ إننا فيما أنزلناه عليك من قرآن كريم ، نقص عليك قصتهم بالحق الذى لا يحوم حوله باطل ، على سبيل التثبيت لك ، والتسلية لقلبك .
والضيف فى الأصل مصدر بمعنى الميل ، يقال ضاف فلان فلانا إذا مال كل واحد منهما نحو الآخر ، ويطلق على الواحد والجماعة . والمراد هنا : جماعة الملائكة الذين قدموا على إبراهيم - عليه السلام - وعلى رأسهم جبريل ، ووصفهم بأنهم كانوا مكرمين ، لإكرام الله - تعالى - لهم بطاعته وامتثال أمره . ولإكرام إبراهيم لهم ، حيث قدم لهم أشهى الأطعمة وأجودها .
قال الآلوسى : قيل : كانوا اثنى عشر ملكا وقيل : كانوا ثلاثة : جبريل وإسرافيل وميكائيل . وسموا ضيفا لأنهم كانوا فى صورة الضيف ، ولأن إبراهيم - عليه السلام - حسبهم كذلك ، فالتسمية على مقتضى الظاهر والحسبان .
وبدأ بقصة إبراهيم وإن كانت متأخرة عن قصة عاد ، لأنها أقوى فى غرض التسلية .
{ هل أتاك حديث ضيف إبراهيم } فيه تفخيم لشأن الحديث وتنبيه على أنه أوحي إليه ، والضيف في الأصل مصدر ولذلك يطلق على الواحد والمتعدد . قيل كانوا اثني عشر ملكا . وقيل ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل ، وسماهم ضيفا لأنهم كانوا في صورة الضيف . { المكرمين } أي مكرمين عند الله أو عند إبراهيم إذ خدمهم بنفسه وزوجته .
انتقال من الإنذار والموعظة والاستدلال إلى الاعتبار بأحوال الأمم الماضية المماثلة للمخاطبين المشركين في الكفر وتكذيب الرسل . والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وغيّر أسلوب الكلام من خطاب المنذرين مواجهة إلى أسلوب التعريض تفنناً بذكر قصة إبراهيم لتكون توطئة للمقصود من ذكر ما حلّ بقوم لوط حين كذبوا رسولهم ، فالمقصود هو ما بعد قوله { قال فما خطبكم أيها المرسلون } [ الحجر : 57 ] .
وكان في الابتداء بذكر قوم لوط في هذه الآية على خلاف الترتيب الذي جرى عليه اصطلاح القرآن في ترتيب قصص الأمم المكذبة بابتدائها بقوم نوح ثم عاد ثم ثمود ثم قوم لوط أن المناسبة للانتقال من وعيد المشركين إلى العبرة بالأمم الماضية أن المشركين وصفوا آنفاً بأنهم في غمرة ساهون فكانوا في تلك الغمرة أشبه بقوم لوط إذ قال الله فيهم { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون } [ الحجر : 72 ] ، ولأن العذاب الذي عذب به قوم لوط كان حجارة أنزلت عليهم من السماء مشبهة بالمطر . k وقد سميت مطراً في قوله تعالى : { ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطرَ السوء } [ الفرقان : 40 ] وقوله : { وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل } [ هود : 82 ] ولأن في قصة حضور الملائكة عند إبراهيم وزوجه عبرة بإمكان البعث فقد تضمنت بشارتها بمولود يولد لها بعد اليأس من الولادة وذلك مثل البعث بالحياة بعد الممات .
ولمّا وجه الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم بقوله : { هل أتاك } عُرف أن المقصود الأصلي تسليته على ما لقيه من تكذيب قومه . ويتبع ذلك تعريض بالسامعين حين يُقرأ عليهم القرآن أو يبلغهم بأنهم صائرون إلى مثِل ذلك العذاب لاتحاد الأسباب .
وتقدم القول في نظير { هل أتاك حديث } عند قوله تعالى : { وهل أتاك نبؤا الخصم } في سورة ص ( 21 ) ، وأنه يفتتح به الأخبار الفخمة المهمة .
والضيف : اسم يقال للواحد وللجمع لأن أصله مصدر ضَاف ، إذا مال فأطلق على الذي يميل إلى بيت أحد لينزل عنده . ثم صار اسماً فإذا لوحظ أصله أطلق على الواحد وغيره ولم يؤنثوه ولا يجمعونه وإذا لوحظ الاسم جمعوه للجماعة وأنثوه للأنثى فقالوا أضيافٌ وضيوف وامرأة ضيفة وهو هنا اسم جمع ولذلك وصف { بالمكْرمين } ، وتقدم في سورة الحجر ( 68 ) { قال إن هؤلاء ضيفي } والمعنيّ به الملائكة الذي أظهرهم الله لإبراهيم عليه السلام فأخبروه بأنهم مرسلون من الله لتنفيذ العذاب لقوم لوط وسماهم الله ضيفاً نظراً لصورة مجيئهم في هيئة الضيف كما سمى الملكين الذين جاءا داود خصماً في قوله تعالى : { وهل أتاك نبؤا الخصم } [ ص : 21 ] ، وذلك من الاستعارة الصورية .
وفي سفر التكوين من التوراة : أنهم كانوا ثلاثة . وعن ابن عباس : أنهم جبريل وميكائيل وإسرافيل . وعن عطاء : جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر .
ولعل سبب إرسال ثلاثة ليقع تشكُّلهم في شكل الرجال لما تعارفه الناس في أسفارهم أن لا يقلّ ركب المسافرين عن ثلاثة رفاقٍ .
وذلك أصل جريان المخاطبة بصيغة المثنى في نحو : « قفا نبك » . وفي الحديث " الواحدُ شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة ركب " . رواه الحاكم في « المستدرك » وذكر أن سنده صحيح . وقد يكون سبب إرسالهم ثلاثةً أن عذاب قوم لو كان بأصناف مختلفة لكل صنف منها ملكَهُ الموكَّل به .
ووصفهم بالمكْرَمين كلام موجه لأنه يوهم أن ذلك لإكرام إبراهيم إياهم كما جرت عادته مع الضيف وهو الذي سنّ القِرى ، والمقصودُ : أن الله أكرمهم برفع الدرجة لأن الملائكة مقربون عند الله تعالى كما قال : { بل عباد مكرمون } [ الأنبياء : 26 ] وقال : { كِراماً كاتبين } [ الانفطار : 11 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{هل أتاك} يعني قد أتاك يا محمد {حديث ضيف إبراهيم المكرمين} يعني جبريل وميكائيل، وملك آخر أكرمهم إبراهيم وأحسن القيام...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يخبره أنه محلّ بمن تمادى في غيه، وأصرّ على كفره، فلم يتب منه من كفار قومه، ما أحلّ بمن قبلهم من الأمم الخالية، ومذكرا قومه من قريش بإخباره إياهم أخبارهم وقصصهم، وما فعل بهم، هل أتاك يا محمد حديث ضيف إبراهيم خليل الرحمن المكرمين.
يعني بقوله:"المُكْرَمِينَ "أن إبراهيم عليه السلام وسارّة خدماهم بأنفسهما...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: أي قد أتاك حديث ضيف إبراهيم، فحاجّ به أولئك وخاصِم.
والثاني: لم يأتك بعد، ولكن سيأتيك حديث ضيف إبراهيم. فإذا أتاك به فحاجّ أولئك الكفرة به، والله أعلم.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
... سمّاهم مكرمين، لأنّ أضياف الكرام مكرمون، وكان إبراهيم عليه السلام أكرم الخليقة وأطهرهم فتوة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{هَلْ أتاك} تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما عرفه بالوحي. والضيف للواحد والجماعة...
لأنه في الأصل مصدر ضافه، وجعلهم ضيفاً؛ لأنهم كانوا في صورة الضيف: حيث أضافهم إبراهيم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{هل أتاك} تقرير لتجتمع نفس المخاطب، وهذا كما تبدأ المرء إذا أردت أن تحدثه بعجيب فتقرره هل سمع منك أم لا؟ فكأنه تقتضي منه أن يقول لا، ويستطعمك الحديث...
{هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين} إشارة إلى تسلية قلب النبي صلى الله عليه وسلم ببيان أن غيره من الأنبياء عليهم السلام كان مثله، واختار إبراهيم لكونه شيخ المرسلين كون النبي عليه الصلاة والسلام على سنته في بعض الأشياء، وإنذار لقومه بما جرى من الضيف، ومن إنزال الحجارة على المذنبين المضلين، وفيه مسائل:...
المسألة الثانية: كيف سماهم ضيفا ولم يكونوا؟ نقول لما حسبهم إبراهيم عليه السلام ضيفا لم يكذبه الله تعالى في حسابه إكراما له، يقال في كلمات المحققين الصادق يكون ما يقول، والصديق يقول ما يكون.
المسألة الثالثة:... فإن قيل: بماذا أكرمهم؟ قلنا ببشاشة الوجه أولا، وبالإجلاس في أحسن المواضع وألطفها ثانيا، وتعجيل القرى ثالثا، وبعد التكليف للضيف بالأكل والجلوس.
المسألة الرابعة: هم أرسلوا للعذاب بدليل قولهم: {إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين} وهم لم يكونوا من قوم إبراهيم عليه السلام، وإنما كانوا من قوم لوط فما الحكمة في مجيئهم إلى إبراهيم عليه السلام؟ نقول فيه حكمة بالغة، وبيانها من وجهين:... وثانيهما هو أن الله تعالى لما قدر أن يهلك قوما كثيرا وجما غفيرا، وكان ذلك مما يحزن إبراهيم عليه السلام شفقة منه على عباده قال لهم بشروه بغلام يخرج من صلبه أضعاف ما يهلك، ويكون من صلبه خروج الأنبياء عليهم السلام.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقد ذهب الإمام أحمد وطائفة من العلماء إلى وجوب الضيافة للنزيل، وقد وردت السنة بذلك كما هو ظاهر التنزيل.
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
هل علمت قصة ابراهيم ولوط عليهما السلام، يكرمك الله كما أكرمهما، ويهلك مكذبك كما أهلك مكذبيهما، والله أكرمهم بالعبادة والعصمة، وبإضافة خير الخلق يومئذ إبراهيم، وبتعجيل الضيافة، ثم إن كانت هذه الآية أول آية نزلت في ضيف إبراهيم، فالاستفهام للإعلام... وإلا فللتقرير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال من الإنذار والموعظة والاستدلال إلى الاعتبار بأحوال الأمم الماضية المماثلة للمخاطبين المشركين في الكفر وتكذيب الرسل. والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وغيّر أسلوب الكلام من خطاب المنذرين مواجهة إلى أسلوب التعريض تفنناً بذكر قصة إبراهيم لتكون توطئة للمقصود من ذكر ما حلّ بقوم لوط حين كذبوا رسولهم، فالمقصود هو ما بعد قوله {قال فما خطبكم أيها المرسلون}... وكان في الابتداء بذكر قوم لوط في هذه الآية على خلاف الترتيب الذي جرى عليه اصطلاح القرآن في بالمكْرَمين كلام موجه لأنه يوهم أن ذلك لإكرام إبراهيم إياهم كما جرت عادته مع الضيف وهو الذي سنّ القِرى، والمقصودُ: أن الله أكرمهم برفع الدرجة لأن الملائكة مقربون عند ما وصفهم لله تعالى كما قال: {بل عباد مكرمون} [الأنبياء: 26] وقال: {كِراماً كاتبين} [الانفطار: 11]...
في قصة حضور الملائكة عند إبراهيم وزوجه عبرة بإمكان البعث فقد تضمنت بشارتها بمولود يولد لها بعد اليأس من الولادة وذلك مثل البعث بالحياة بعد الممات...
ولمّا وجه الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم بقوله: {هل أتاك} عُرف أن المقصود الأصلي تسليته على ما لقيه من تكذيب قومه. ويتبع ذلك تعريض بالسامعين حين يُقرأ عليهم القرآن أو يبلغهم بأنهم صائرون إلى مثِل ذلك العذاب لاتحاد الأسباب...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وأوّل جانب يثيره هذا المقطع هو قصّة الملائكة الذين جاءوا لعذاب قوم لوط، ومرّوا على إبراهيم (عليه السلام) على صورة بشر، ليبشّروه بالولد، مع أنّ إبراهيم بلغ سنّاً كبيراً فهو في مرحلة المشيب وامرأته كانت عقيماً كذلك! فمن جهة.. يعدّ إعطاء هذا الولد لإبراهيم وزوجه وهما في مرحلة الكبر واليأس من الإنجاب تأكيداً على كون الأرزاق مقدّرة كما أشير إلى ذلك في الآيات المتقدّمة. ومن جهة أخرى يُعدّ دليلا آخر على قدرة الحقّ وآية من آيات معرفة الله التي ورد البحث عنها في الآيات آنفاً. ومن جهة ثالثة يُعدّ بُشرى للأمم المؤمنة بأنّها في رعاية الحقّ كما أنّ الآيات التالية تتحدّث عن عذاب قوم لوط وهي في الوقت ذاته تهديد للمجرمين...