فيقول - سبحانه - للزبانية المكلفين بإنزال العذاب بالكافرين : { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } أى : خذوا هذا الكافر ، فاجمعوا يديه إلى عنقه .
فقوله : { خُذُوهُ } معمول لقول محذوف . وهو جواب عن سؤال نشأ مما سبق من الكلام . فكأنه قيل : وماذا يفعل به بعد هذا التحسر والتفجيع . فكان الجواب : أمر الله - تعالى - ملائكته بقوله : { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } . .
وقوله : { فَغُلُّوهُ } من الغُل - بضم الغين - وهو ربط اليدين إلى العنق على سبيل الإِذلال .
ولا يقطع هذه الرنة الحزينة المديدة إلا الأمر العلوي الجازم ، بجلاله وهوله وروعته :
( خذوه . فغلوه . ثم الجحيم صلوه . ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ) . .
يا للهول الهائل ! ويا للرعب القاتل ! ويا للجلال الماثل !
كلمة تصدر من العلي الأعلى . فيتحرك الوجود كله على هذا المسكين الصغير الهزيل . ويبتدره المكلفون بالأمر من كل جانب ، كما يقول ابن أبي حاتم بإسناده عن المنهال بن عمرو : " إذا قال الله تعالى : خذوه ابتدره سبعون ألف ملك . إن الملك منهم ليقول هكذا فيلقي سبعين ألفا في النار " . . كلهم يبتدر هذه الحشرة الصغيرة المكروبة المذهولة !
فأي السبعين ألفا بلغه جعل الغل في عنقه . . !
ونكاد نسمع كيف تشويه النار وتصليه . .
( ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ) . .
وذراع واحدة من سلاسل النار تكفيه ! ولكن إيحاء التطويل والتهويل ينضح من وراء لفظ السبعين وصورتها .
فعندها يقول الله ، عز وجل : { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ } أي : يأمر الزبانية أن تأخذه عنْفًا من المحشر ، فَتَغُله ، أي : تضع الأغلال في عنقه ، ثم تُورده إلى جهنم فتصليه إياها ، أي : تغمره فيها .
قال ابن أبي حاتم حدثنا : أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد ، عن عمرو بن قيس ، عن المِنْهَال بن عمرو قال : إذا قال الله ، عز وجل { خذوه } ابتدره سبعون ألف ملك ، إن الملك منهم ليقول هكذا ، فيلقي سبعين ألفا في النار .
وروى ابن أبي الدنيا في " الأهوال " : أنه يبتدره أربعمائة ألف ، ولا يبقى شيء إلا دَقَه ، فيقول : ما لي ولك ؟ فيقول : إن الرب عليك غضبان ، فكل شيء غضبان عليك .
وقال الفضيل - هو ابن عياض - : إذا قال الرب ، عز وجل : { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } ابتدره سبعون ألفا ملك ، أيهم يجعل الغل في عنقه .
وقوله : خُذُوهُ فَغُلّوهُ يقول تعالى ذكره لملائكته من خزّان جهنم : خُذُوهُ فَغُلّوهُ ثُمّ الجَحِيمَ صَلّوهُ يقول : ثم في جهنم أوردوه ليصلى فيها ثُمّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِرَاعا فاسْلُكُوهُ يقول : ثم اسكلوه في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا بذراعٍ اللّهٌ أعلم بقدر طولها . وقيل : إنها تدخل في دُبُره ، ثم تخرج من منخريه . وقال بعضهم : تدخل في فيه ، وتخرج من دبره . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن نسير بن دعلوق ، قال : سمعت نَوْفا يقول : فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِرَاعا قال : كلّ ذراع سبعون باعا ، الباع : أبعد ما بينك وبين مكة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني نسير ، قال : سمعت نوفا يقول في رحبة الكوفة في إمارة مصعب بن الزبير في قوله فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِرَاعا قال : الذراع : سبعون باعا ، الباع : أبعد ما بينك وبين مكة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن نسير بن ذعلوق أبي طعمة ، عن نوف البكالي فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعا قال : كلّ ذراع سبعون باعا ، كلّ باع أبعد مما بينك وبين مكة وهو يومئذٍ في مسجد الكوفة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس .
قوله : فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِرَاعا فاسْلُكُوهُ قال : بذراع الملك فاسلكوه ، قال : تسلك في دُبره حتى تخرج من منخريه ، حتى لا يقوم على رجليه .
حدثنا بن المثنى ، قال : حدثنا يعمر بن بشير المنقري ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا سعيد بن يزيد ، عن أبي السمح ، عن عيسى بن هلال الصدفي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَوْ أنّ رَصَاصَةً مِثْلَ هَذِهِ ، وأشار إلى جمجمة ، أُرْسلَتْ مِنَ السّماءِ إلى الأرْضِ ، وَهيَ مَسِيرَةُ خَمْسِ مِئَةِ سَنَةٍ ، لَبَلَغَتِ الأرْضَ قَبْل اللّيْل ، وَلَوْ أنّها أُرْسِلَتْ مِنْ رأسِ السّلْسِلَةِ لَسارَتْ أرْبَعِينَ خَرِيفا اللّيْلَ والنّهارَ قَبْلَ أّ تَبْلُغَ قَعْرَها أوْ أصْلَها » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن ابن المبارك ، عن مجاهد ، عن جُويبر ، عن الضحاك ، فاسْلُكُوهُ قال : السلك : أن تدخل السلسلة في فيه ، وتخرج من دبره .
وقيل : ثُمّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِرَاعا فاسْلُكُوهُ وإنما تسلك السلسلة في فيه ، كما قالت العرب : أدخلت رأسي في القلنسوة ، وإنما تدخل القلنسوة في الرأس ، وكما قال الأعشي :
*** إذَا ما السّرَابُ ارْتَدَى بالأَكَمْ ***
وإنما يرتدي الأكم بالسراب وما أشبه ذلك ، وإنما قيل ذلك كذلك لمعرفة السامعين معناه ، وإنه لا يشكل على سامعه ما أراد قائله .
{ خذوه } مقول لقول محذوف موقعه في موقع الحال من ضمير { فيقول يا ليتني لم أَوْت كتابيه } [ الحاقة : 25 ] ، والتقدير : يُقال : خذوه .
ومعلوم من المقام أن المأمورين بأن يأخذوه هم الملائكة الموكلون بسَوق أهللِ الحساب إلى ما أُعد لهم .
وغُلُّوه : أمر من غلّه إذا وضعه في الغُل وهو القيد الذي يجعل في عنق الجاني أو الأسير فهو فعل مشتق من اسم جامد ، ولم يسمع إلاّ ثلاثياً ولعل قياسه أن يقال : غَلَّله بلامين لأن الغُل مضاعف اللام ، فحقه أن يكون مثل عَمَّم ، إذا جعل له عمامة ، وأزَّر ، إذا ألبسه إزاراً ، ودرَّع الجاريةَ ، إذا ألبسها الدِرع ، فلعلهم قالوا : غَلَّه تخفيفاً . وعطف بفاء التعقيب لإِفادة الإِسراع بوضعه في الأغلال عقب أخذه .